الحرب في السودان ليست منسية، بل يجري تجاهلها عمدًا
بقلم: بيادر محمد عثمان
تُجرى مكالمات عائلية متقطعة بين مدن وولايات ومناطق زمنية مختلفة. نحاول نحن السودانيين معرفة مصير أحبائنا؛ هل فُقدوا، أم اعتُقلوا، أم تُركوا لمواجهة الموت وحدهم؟
بدأت ثورة ديسمبر 2018 في عطبرة، ومنها اندلعت اعتصامات القيادة العامة في الخرطوم خلال ربيع 2019. هناك، اجتمع رجال ونساء وأطفال من مختلف الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والعرقية لأكثر من شهرين مطالبين بحكم مدني ديمقراطي. امتلأت الجدران بالجداريات، وارتفعت الهتافات كشعاع أمل بالتغيير.
نجح المحتجون في إسقاط عمر البشير، الذي حكم السودان ثلاثين عامًا، لكن المستقبل ظل غامضًا. كان ذلك أقرب ما وصلنا إليه من حكم مدني، وقد لفتت صور النساء بثياب بيضاء يقدن التظاهرات على السيارات والجسور أنظار العالم بأسره. حتى المغنية ريهانا غيّرت صورة ملفها على إنستغرام تكريمًا للشهيد محمد مطر، فأصبح الأزرق لونًا للثورة.
في تلك اللحظة شعرنا أن العالم يقف معنا، وأن الدعم الدولي قادم لإعادة بناء وطننا. لكنه كان مجرد ومضة عابرة، موضة انطفأت سريعًا مع تغيّر الخوارزميات.
ثم جاء يونيو 2019، حين اقتحمت القوات المسلحة والجنجويد –التي عُرفت لاحقًا باسم قوات الدعم السريع– الاعتصام بعنف وحشي. قُتل أكثر من 100 شخص، وأُلقيت جثث مشوّهة في النيل، وانهار الأمل لدى الملايين. كنت مع أسرتي نبحث أيامًا عن أقاربنا المشاركين في الاعتصام، وعندما وجدناهم كانوا مصابين وكدماتهم تملأ أجسادهم، لكنهم نجوا بأعجوبة.
وبحلول أبريل 2023 اندلعت الحرب رسميًا، رغم أننا نشعر وكأنها امتداد لصراع ممتد منذ الحقبة الاستعمارية. هذه ليست حربًا أهلية ولا صراعًا بالوكالة فقط، بل محاولة منظمة لإسكات طموح السودانيين في الحرية، تنفذها قوى تخشى السلام والوحدة. قوات الدعم السريع ليست سوى أداة في مخطط أكبر: التفتيت، الفوضى، وإعادة إنتاج الاستعمار.
فهل من المصادفة أن بلدًا مثل السودان –حيث نزح 14 مليون شخص، وحُرم 17 مليون طفل من التعليم، وسط مجاعة وإبادة جماعية وعنف جنسي ومقتل 150 ألف إنسان– يُترك ليموت صامتًا؟ هل لأن شعبه أغلبية من الأفارقة السود، العرب السود، والمسلمين السود؟
السودان بلد استراتيجي في شرق أفريقيا قريب من الشرق الأوسط. استعاد استقلاله وحكمه الذاتي، لكنه اليوم مقموع مرة أخرى، ليس فقط على يد طغاة محليين، بل أيضًا بصمت عالمي يشيح وجهه عن تضحياتنا.
خذلنا المجتمعان العربي والإسلامي. السودان عضو في جامعة الدول العربية منذ 1965، وهو بلد مسلم بالأغلبية. ومع ذلك لم نجد دعمًا حقيقيًا من مؤسسات المنطقة. نحن لسنا أمة تُحارب نفسها، بل أمة تحاول إنقاذ ذاتها بينما يُغرقها العالم في الظلم. لدينا الأطباء والفنانون والمهندسون والمفكرون، وكل ما نحتاجه هو منبر يُصغي لنا.
نحن بشر لا قلوبنا ولا عقولنا تتسع لكل هذا القدر من الألم. قد يكون النشاط الانتقائي مفهومًا، لكن التعتيم على السودان عن عمد أمر غير مقبول. فالقضايا مترابطة لأن أصحابها مترابطون.
هذه ليست منافسة في المآسي، ولا “أولمبياد قمع”. قضايانا جميعًا متداخلة منذ البداية. لكن الإعلام العالمي قرر أن معاناتنا لا تستحق التغطية، فاضطررنا أن نصبح نحن الإعلام لأنفسنا، نوثّق الفظائع وننشرها.
أدعوكم جميعًا لأن تكونوا جزءًا من هذا الجهد. فلنكسر إرث الغرب في الانتقائية، وألّا نعيد إنتاجه داخل مجتمعاتنا.
يقول الله تعالى في سورة الحجرات: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا” (49:13).
جلست في المساجد أدعو وألتمس التوجيه من العلماء. بحثت في المدونات الصوتية عن التضامن، وتمنيت أن يرفع قادة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أصواتهم دفاعًا عن السودان. وجدت عزائي في مبادرات مثل “ليالي النيل” و”صندوق السودان”، وفي أصوات أئمة مثل عمار الشكري. الشرط الوحيد للتضامن هو الرحمة، لا الهوية السودانية.
لكن تظل الأسئلة الموجعة تطاردني: هل موتنا مُبرر؟ هل لون أرضنا شديد السواد؟ هل لا نستحق ذهبنا ومواردنا؟ هل لأن عدونا ليس صورة نمطية واضحة؟
في دارفور، تُحاصر مدينة الفاشر اليوم بقسوة من قوات الدعم السريع. تُظهر صور الأقمار الصناعية مقابر جماعية وجدرانًا تعزل المدنيين عن العالم، بينما تجتاح المجاعة والعنف الجنسي والأمراض القابلة للعلاج مثل الكوليرا السكان.
العنصرية –المعلنة أو الخفية– هي ما يجعل تجاهل السودان ممنهجًا. ليست ذريعة “التعقيد” إلا حجة للهروب من مسؤولية أخلاقية واضحة. لا شيء معقد في مأساة 14 مليون نازح و17 مليون طفل بلا مدارس.
نحن لا نطلب من الجميع تحليلات جيوسياسية أو حلولًا كبرى. السودانيون صامدون، مبدعون، ومقاتلون من أجل الحياة. عماد الدعم الإنساني اليوم هو غرف الطوارئ الشعبية المنتشرة عبر البلاد، يقودها شباب محليون ينظمون الإجلاء، يطبخون الحساء، يقدمون الرعاية الصحية، ويوزعون مستلزمات النساء.
إنهم يسدون الفجوة التي تركتها الوكالات الدولية، ويتحمّلون المسؤولية بشجاعة.
لذلك، لا حاجة إلى “منقذ خارجي”. لدينا قوتنا الداخلية. كل ما نطلبه منكم: توقفوا عن تجاهلنا. فالصمت أخطر الأسلحة.
=======
بيادر محمد عثمان، شاعرة وناشطة أمريكية من أصل سوداني وأخصائية في الصحة العامة، وُلدت في كسلا عام 1996. جمعت بين اهتماماتها الأدبية والمجتمعية والصحية بوصفها مجالات مترابطة تصب في خدمة العدالة الاجتماعية.
نشأت بيادر في أسرة اضطهدها نظام عمر البشير، واضطرت إلى مغادرة السودان برفقة والديها. كان والدها، الناشط السياسي، هو من ألهمها الانخراط المبكر في قضايا العدالة. تصف نفسها اليوم بأنها منظمة مجتمعية للفئات المهمشة، وتسعى عبر عملها الإنساني والإعلامي لجمع التبرعات وزيادة الوعي العالمي، خاصة منذ اندلاع حرب 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.