محكمة البرهان الدستوربة: عطاء من لا يملك لمن لا يستحق ومحاولة ترقيع المشهد السياسي لمصلحة الجنرال وعصبته

سمير شيخ إدريس المحامي

بقلم : سمير شيخ ادريس

امتدادا لتخبطات الجنرال في متاهته العميقة أصدر البرهان مرسوما دستوريا قضي بتعيين القاضي وهبي محمد مختار رئيسا للمحكمة الدستورية عقب خمس سنوات من غياب المحكمة المعنية، وجاء في تسبيب القرار بإصدار المرسوم استناده لتوصية رسمية من المفوضية القومية للخدمة القضائية التي اجتمعت بشكل طارئ برئاسة الجهاز القضائي في بورتسودان، وأمنت على اختصاص مجلس السيادة الدستوري بتشكيل المحكمة الدستورية، وفقا لنص الوثيقة الدستورية الحاكمة للبلاد، وتأتي الخطوة ضمن حزمة من القرارات التي انفرد بها البرهان عقب تعديلاته المتلاحقة للوثيقة الدستورية لسنة 2019، وكان آخرها تلك التعديلات التي كرس بموجبها في يده كافة السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، بما يتوافق وهندسة واقع المشهد السياسي الذي ظل ينشده عبر انقلاباته المتعددة علي ثورة ديسمبر، منذ فض اعتصام القيادة في يونيو 2019 ومرورا بانقلابه العسكري على المكون المدني في أكتوبر 2021 من أجل الانفراد الكامل بالحكم؛ خوفا من المحاسبة ولمصلحة أرباب نعمته من منسوبي النظام البائد من أجل عودتهم للسلطة من جديد، على الرغم من مرار الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب السوداني نتيجة الحرب التي اشتعلت جراء أشواق العودة تلك وانقلابه على شريكه قائد مليشيا الجنجويد، لذلك يصبح العنوان صادقا حين يصف قراره بتشكيل المحكمة بأنها محكمة البرهان الدستورية، حيث أن قرار التشكيل لا تسنده شرعية دستورية أو قانونية وإنما صدر من محض انفراده بالسلطة وهيمنته الكاملة على الجهاز القضائي وأجهزة العدالة بالبلاد جميعا، فتلك التعديلات منحته سلطة تعيين رئيس القضاء ورئيس المحكمة الدستورية ورئيس الوزراء وولاة الولايات ورؤساء الأجهزة الأمنية، وغيرها من السلطات التي كرسها لمجلسه السيادي بيد قابضة علي كل مفاصل السلطة.
يدرك الجنرال في غيهب التيه بزهو السلطة عدم شرعية القرارات التي يصدرها منذ انقلابه المشؤوم، وبلغ به الضلال مبلغ إسناد كل تلك القرارات للوثيقة الدستورية التي انقلب عليها وأضفى عليها من التعديلات التي طمست ملامحها الأساسية، وتمخض عنها جنين مشوه يشرعن خطله في السير نحو لذة السلطة المشتهاة، وتأتي عدم شرعية القرار في تشكيل المحكمة كون أن الوثيقة التي استند عليها لم تعد باقية أو صالحة النفاذ لغياب الأساس الذي قامت عليه، فهي كانت عصارة جهد ثوري قادته الجماهير طيلة حقبة الغيهب الإنقاذي وتوج بثورة ديسمبر 2018، وهي نتاج تطابق إرادة قوى إعلان الحرية والتغيير والمكون العسكري، ولاحقا أطراف العملية السلمية كخارطة طريق لأساس وهياكل السلطة خلال الفترة الانتقالية، وكل ذلك تضمنته ديباجة الوثيقة التي بينت مصادر تشريعها المستقاة من روح الثورة ودماء الشهداء والمتضررين من النظام السابق لبناء نظام ديمقراطي تعددي يقوم علي المواطنة وحقوق الإنسان، التزاما بمبادئ إعلان الحرية والتغيير وشرعية الثورة، وقد أغفلت تعديلات البرهان كل تلك المبادئ التي قامت عليها الوثيقة بحيث تسقط عنها الشرعية الدستورية المستند عليها القرار، وبذلك يقع باطلا مرسومه القاضي بتعيين رئيس المحكمة الدستورية من مدخل الوثيقة قبل الولوج لبنود موادها التي تستمد فاعليتها من كون الشروط التي أوجدتها قائمة كنتاج لعملية سياسية مثلتها إرادة أطرافها الحائزة سلطة وشرعية الإتفاق مجتمعة دون غياب.
نظمت الوثيقة الدستورية في المواد 29- 31 أجهزة القضاء ومن ضمنها المحكمة الدستورية، واختصت مجلس القضاء العالي الذي كان يفترض تشكيله كبديل لمفوضية القضاء باختيار رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية، وحددت طبيعة مهامها كمحكمة مستقلة ومنفصلة عن السلطة القضائية وتختص بالفصل في دستورية القوانين والنزاعات الدستورية وحماية الحقوق والحريات، وهي محكمة استحدثها نظام الإنقاذ كي تصبح ذراعه القانوني في ستر عورات انتهاكاته الدستورية، وحائط الصد الأخير للنظام ومنسوبيه ضد القرارات الصادرة ضدهم من سلطات القضاء، ولا عجب أنها كانت تفصل في دعاوى متعلقة بالإيجارات والشيكات والحضانة والنفقات، ولم تقم مطلقا بالفصل في دستورية القوانين وحماية الحريات، حيث ظلت الدعاوى الدستورية المرفوعة أمامها ضد انتهاكات أجهزة الأمن لم تراوح أضابيرها لسنوات حتي سقوط النظام، و باختيار البرهان للقاضي وهبي مختار يتضح جليا نواياه المسبقة في السيطرة على النظام القضائي وشرعنة جهاز سلطته في مواجهة الخصوم، وتثبيت دعائم حكمه بإضفاء بعض البهار القانوني، فالقاضي وهبي سبق له تولي رئاسة المحكمة الدستورية في ظل نظام الإنقاذ في الفترة من 2014 حتى 2019 خلفا للقاضي عبد الله أحمد عبد الله الذي استقال عن رئاسة المحكمة إثر تطورات وشبهات فساد متعلقة بقضية شركة الأقطان الشهيرة، التي أحدثت هزة عنيفة في الأوساط القانونية والنظام الحاكم ووسط الجماهير، لذلك يعد اختيار القاضي وهبي مصادفا لأهله حيث يملك الخبرة الكافية لإدارة محكمة مسؤولة عن صون الدستور وحماية الحقوق في ظل نظام قمعي وسلطة تنفيذية تهيمن علي النظام القضائي، مثلما فعل في عهد البشير ويستشف ذلك من تصريحاته عقب أدائه اليمين بقبول التكليف، حيث صرح أن المحكمة الدستورية ستقوم بحماية الدستور والحقوق والحريات العامة ومراقبة أداء السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، مع علمه التام والبديهي لدي العامة كذلك أن ما ذكره لا يمكن تحقيقه إلا في ظل نظام قضائي مستقل بشكل يجعله قادرا علي تحقيق العدالة وحماية الحقوق والحريات، وليس في ظل نظام قمعي انقلابي يهيمن علي السلطة القضائية ويدير مفاصلها وفق أهواءه ونوازع حكمه.
ورغم ذهاب عدد من السياسيين وخبراء القانون في تفسير قيام المحكمة الدستورية في الوقت الحالي بأنها البوابة التي سينجو منها مجرمو النظام السابق عبر إصدار أحكام تبرئهم من جرائمهم وتؤدي لإطلاق سراحهم إلا أنه تبرير قاصر، حيث أن هؤلاء المجرمين لا يحتاجون لقيام محكمة دستورية تفصل الأحكام لينالوا حريتهم، حيث أن المنظومة العدلية الحالية بما عليها من فساد تكفي لأداء هذه التهمة بامتياز وتكفي إحكام القاضي أبو سبيحة التي صدرت سابقا بعد انقلاب البرهان وألغت كل قرارات لجنة التمكين وأعادت كل الفاسدين وأذرع الإسلاميين لوظائفهم السابقة سيما في القضاء والجهاز العدلي، لذا فإن الاسلاميين أصبحوا يجدون الحصن الكافي داخل المنظومة العدلية الذي يبعث في نفوسهم الطمأنينة بالنجاة دون حاجة الدستورية، كما أن سياسة نظام البرهان نفسه مع حلفائه وأرباب نعمته بما وفره من إفلات مجرمي الإنقاذ من جرائمهم السابقة بإطلاق سراحهم بعد الانقلاب والحرب كان كافيا لتوفير طوق نجاتهم وتحققه فعليا، ولنا أن نسأل الآن تدليلا علي ذلك أين الآن متهمي انقلاب الإنقاذ علي عثمان والطيب سيخة وعبد الرحيم وعلي الحاج ونافع والجاز والبشير نفسه وغيرهم؟ أين قتلة أحمد الخير وقتلة شباب الثورة والاعتصام؟ بالطبع إنهم خارج السجون وخارج البلاد ينعمون بالحرية والتنعم بأموال الشعب التي نهبوها على أرائك الحرير يقتاتون الفواكه الاستوائية بأيديهم التي لا تزال ملطخة بدماء الأبرياء من الشعب، دون حاجة لأي محكمة دستورية تضفي عليهم مزيدا من النعيم، فتعيين رئيس المحكمة الدستورية وقيامها في هذا التوقيت يجاوز التحليل الذي يراه السياسيون وخبراء القانون لهدف أبعد سموا في مخيلة الجنرال، يستهدف مزيدا من إحكام قبضته على المشهد السياسي في البلاد لتمرير كافة أفعاله وتوفير الحصانة لها بمزيد من الهيمنة علي كافة السلطات ومن ضمنها السلطة القضائية عبر أعلى مستويات ودرجات سلمها التنظيمي ممثلا في المحكمة الدستورية، مضيفا بيدقا جديدا لرقعة مسرحه العبثي في سلطة الحكم.

Exit mobile version