بقلم: كوسيسو نواتشوكو
موسيقى الجاز السودانية من أبرز أشكال التعبير الفني التي وُلدت من رحم التداخل الثقافي، إذ تمزج بين غناء الحقيبة السوداني والإيقاعات الأفريقية التقليدية، وبين آلات غربية مثل الساكسفون والجيتار، لتقدم صوتًا فريدًا يعكس شخصية السودان الموسيقية المتجددة.
ترجع بدايات هذا اللون الموسيقي إلى عشرينيات القرن الماضي خلال فترة الحكم الثنائي (البريطاني – المصري) للسودان. كان غناء الحقيبة، القائم على الأداء الجماعي وإيقاع آلة التار (طبل الإطار)، بمثابة العمود الفقري الذي اندمج لاحقًا مع عناصر الجاز القادمة من الغرب. ومع هذا التمازج، تشكّل صوت سوداني متفرّد يجسد قدرة الثقافة المحلية على التكيّف والإبداع.
يتميّز الجاز السوداني بمزيج من التقاليد الأفريقية والشرقية والغربية، معتمداً على إيقاعات متزامنة ومتعددة الطبقات. ورغم احتفاظه بروح السوينغ الغربي، فإنه يظل مشبعًا بروح الموسيقى السودانية والعربية عبر توظيف آلات مثل العود والوتريات إلى جانب الساكسفون والبوق والجيتار الكهربائي، ليصوغ توليفة موسيقية متجانسة ومبتكرة.
العصر الذهبي للموسيقى السودانية
مع ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، دخل السودان مرحلة موسيقية يعتبرها كثيرون “العصر الذهبي”. انتشرت الفرق الغنائية والموسيقية التي خاضت تجارب جريئة، تمزج بين الإيقاعات المحلية وتأثيرات الجاز الأمريكي والفانك والسول. لم تكن النوادي الليلية وحفلات الزفاف والإذاعات تخلو من هذا اللون، الذي أصبح جزءًا من الحياة اليومية.
برَزت في تلك الفترة فرق شهيرة مثل العقارب وأضواء بحري وجاز الديوم، إلى جانب أسماء فردية تركت بصمتها مثل شرحبيل أحمد، الملقب بـ”ملك الجاز السوداني”، الذي تميز بعزفه على الجيتار وحضوره المرح، وكذلك الفنان كمال كيلا الذي مزج بين قوة الفانك وحس سياسي واضح.
مع التحولات السياسية والاجتماعية، تراجعت مكانة الجاز السوداني لسنوات طويلة، إلى أن ساهمت جهود إعادة الإحياء في إعادته إلى الواجهة. لعبت شركة Habibi Funk Records في برلين دورًا محوريًا في إعادة اكتشاف التسجيلات النادرة وإصدارها لجمهور جديد. كان من أبرز إصداراتها إعادة نشر أعمال شرحبيل أحمد عام 2020، وهو ما شكّل بوابة للتعرف على إرث الموسيقى السودانية.
أما تجربة كمال كيلا فقد حظيت باهتمام خاص، خصوصًا ألبومه الشهير “مسلمون ومسيحيون” (2018)، الذي يجمع بين النبرة الاحتجاجية والدعوة إلى الوحدة الوطنية، ليجعل من موسيقاه رسالة سلام وتأمل في تاريخ السودان السياسي.
الجاز السوداني اليوم
بفضل المنصات الرقمية وقوائم التشغيل العالمية، بات الجاز السوداني يصل إلى مستمعين يتجاوزون حدود البلاد. قائمة مثل “Sudan: Habibi Funk Selections” أتاحت للآلاف اكتشاف أرشيف غني بالموسيقى، فيما ساعد ألبوم “ملك الجاز السوداني” (Habibi Funk 013) على إعادة شرحبيل أحمد إلى دائرة الضوء.
لقد أثبتت هذه العودة أن الموسيقى، مهما طواها النسيان أو كبّلتها الظروف السياسية، قادرة على النهوض مجددًا، حاملة معها حنين الماضي ومفاجآت الاكتشاف الجديد، لتؤكد أن صوت السودان الإبداعي لم ولن يغيب.