الحرب في السودان تغيّر مسارات الطيور المهاجرة وتكشف الوجه المنسي للأزمة البيئية

أفق جديد

كانت سماء السودان على الدوام ممرًا طبيعيًا وآمنًا للطيور المهاجرة، لكن الحرب غيّرت هذا المشهد السنوي الذي يترقبه عشّاق الطيور، فدفعت به نحو العمق الإفريقي، بعدما خلّفت تحولات قاسية على الأرض والسماء معًا.

لم تعد أسراب الطيور القادمة من أوروبا تجد في الأراضي السودانية محطة استراحة كما في السابق؛ فالحرب المشتعلة منذ أكثر من عامين بدّلت تضاريس الأرض ومسارات السماء على حد سواء.

ويُعد السودان واحدًا من أهم المعابر الطبيعية للطيور المهاجرة في القارة الإفريقية، حيث تعبره آلاف الطيور القادمة من أوروبا متجهةً إلى جنوب القارة بحثًا عن الغذاء ومواطن جديدة للتكاثر. تبدأ هذه الرحلة من القطب الشمالي وتنتهي في أقصى الجنوب؛ فعندما يغطي الجليد أوروبا، تعرف الطيور طريقها مباشرة إلى الأجواء الدافئة في إفريقيا، شمالًا وجنوبًا، في هجرات موسمية تشكّل جزءًا أصيلًا من تكوينها الطبيعي.

لكن هذا الممر الطبيعي، الذي كان يمثل شريانًا للحياة البيئية والاقتصادية، صار اليوم ضحيةً لصراع دموي يمزق السودان. فأصوات الرصاص وسحب الدخان الناتجة عن المعارك، وتدمير المواطن البيئية، دفعت الطيور إلى تغيير مساراتها أو تعطيل هجرتها بصورة كبيرة.

في حلقة حديثة من بودكاست Focus on Africa، كشف خبير الحياة البرية أليكس نغاري أن “الاضطرابات والصراع المسلح في السودان أجبر الطيور المهاجرة على اتخاذ مسارات أطول وأكثر خطورة، ما يستنزف طاقتها ويعرّضها لمخاطر أكبر خلال رحلة الهجرة”.

ووفقًا لنغاري، فقد دُمّرت خلال الحرب مساحات شاسعة من الغطاء النباتي تعادل ما يقارب 4 آلاف ملعب كرة قدم، كانت في السابق توفر للطيور أماكن حيوية للراحة والتغذية. أما اليوم، فقد تحوّلت تلك الأراضي إلى مناطق جرداء بفعل القصف والحرائق والتوسع العسكري، تاركة الطيور بلا مأوى آمن على طول مساراتها التاريخية.

وتُعد غابة السنط واحدة من أبرز المحطات الطبيعية للطيور في السودان، لكنها فقدت الكثير من مساحاتها، ولم تعد صالحة للتكاثر كما في السابق، ما أدى إلى تعطّل دورات حياة الطيور الطبيعية. ويرى نغاري أن هذا الخلل البيئي “ينذر بانخفاض خطير في أعداد الطيور خلال السنوات المقبلة، وهو مؤشر على أزمة أوسع تطال التنوع البيولوجي في البلاد”.

تراجع أعداد الطيور المهاجرة يلقي بظلاله المباشرة على حياة الناس. فعلى الصعيد الاقتصادي، كان السودان يمتلك إمكانات واعدة في سياحة مراقبة الطيور، التي كانت تجذب مئات الزوار سنويًا من أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية. لكن مع انهيار الأمن وتراجع أعداد الطيور، تلاشت هذه العائدات بالكامل، وفقد السودان مصدر دخل محتمل هو في أمسّ الحاجة إليه.

أما المزارعون، فهم الخاسر الأكبر مباشرةً، إذ تلعب الطيور دورًا مهمًا في مكافحة الآفات الزراعية عبر الحفاظ على التوازن البيئي. ومع تراجع أعدادها، يجد المزارعون أنفسهم مضطرين للاعتماد المتزايد على المبيدات، ما يرفع التكاليف ويؤدي إلى مزيد من تدهور خصوبة التربة. وفي بلد يعاني أصلًا من أزمة غذاء طاحنة ونزوح ملايين السكان من مناطقهم الزراعية، يصبح غياب الطيور عنصرًا إضافيًا في سلسلة الانهيارات.

ولفهم حجم الكارثة، يجب النظر إلى الموقع الجغرافي الفريد للسودان، الذي يقع عند نقطة التقاء المسارات الشرقية للطيور المهاجرة بين أوروبا ووسط وجنوب إفريقيا، ما جعله واحدًا من أهم معابر الطيور عالميًا. ووفق تقديرات الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة، يمر عبر السودان سنويًا ما بين 5 و7 ملايين طائر مهاجر من أكثر من 200 نوع، بينها أنواع مهددة بالانقراض مثل طائر أبو منجل الأقرع وطائر النحام الوردي (الفلامنجو). لكن استمرار الحرب يهدد هذه المكانة، ويجعل السودان يفقد تدريجيًا دوره المحوري في شبكة الهجرة العالمية.

يقول نغاري: “حين تُغلق الطبيعة طريقًا ما، تبحث الطيور عن بدائل. لكن هذه البدائل غالبًا ما تكون أطول وأكثر خطورة، ما يعني أن أعدادًا أقل ستتمكن من البقاء حتى نهاية الرحلة”.

البيئة.. الضحية المنسية

يحذر الخبراء من أن تجاهل هذه الجوانب سيضاعف الأزمة، فالنظم البيئية ليست رفاهية طبيعية، بل ركيزة أساسية لصمود المجتمعات البشرية أمام الكوارث. ومع انهيارها، يصبح التعافي أصعب. فالطيور ليست سوى مؤشر مبكر على هذا الانهيار، أشبه بجرس إنذار يعلن أن التوازن قد اختل بالفعل.

ويضيف نغاري: “عندما نخسر الطيور، نخسر أكثر من مجرد كائنات جميلة في السماء. نحن نخسر نظامًا بيئيًا متكاملًا يساعد على إنتاج الغذاء، وحماية التنوع الحيوي، وجذب السياحة والاستثمار”.

ليست هذه المرة الأولى التي تدفع فيها الطبيعة ثمن الحروب في إفريقيا؛ فقد شهدت الكونغو ورواندا تراجعًا كبيرًا في أعداد الحيوانات البرية أثناء الحروب الأهلية، إذ استُنزفت الموارد الطبيعية ودُمرت المواطن البيئية بفعل النزوح والمعارك. لكن حالة السودان تحمل خصوصية، لأنها ترتبط بمسار عالمي للهجرة، ما يجعل الضرر يتجاوز الداخل السوداني ليؤثر على التوازن البيئي في بلدان أخرى تعتمد بدورها على هذه الطيور.

وبينما تستمر المعارك بلا أفق للحل، يظل مستقبل الطيور المهاجرة في السودان غامضًا. ويحذر الخبراء من أن استمرار الوضع لسنوات إضافية سيجعل العودة إلى ما كان عليه شبه مستحيلة، إذ لا تتغير مسارات الهجرة بسهولة بعد فقدان مواطنها التقليدية.

في نهاية المطاف، قد يصبح السودان شاهدًا على مأساة مزدوجة: بلد ممزق بالحرب على الأرض، وفارغ من الطيور في سمائه. صورة تختصر كيف يمكن للصراعات البشرية أن تغيّر ليس فقط حياة الناس، بل أيضًا حياة الكائنات التي لا صوت لها.

Exit mobile version