“الضنك”.. وجع يتربص بصحة واقتصاد السودانيين!

حسام حامد

لم يعُد مصطلح “الضنك” في السودان مجرد كلمة تعبّر عن الضيق الاقتصادي أو المعاناة الحياتية كما جرت العادة في اللهجة الدارجة، بل أصبح يحمل بُعداً صحياً خطيراً مع الانتشار الواسع لحمّى الضنك في العاصمة الخرطوم ومناطق أخرى، في ظل غياب الاستجابة الرسمية الكافية وضعف البنية الصحية؛ هكذا وجد المواطن السوداني العائد من النزوح نفسه بين مطرقة المرض وسندان الأزمة الاقتصادية، فيما تحولت العودة الطوعية إلى الديار المدمرة بفعل الحرب إلى عبء إضافي على كاهله.

من شرق السودان إلى قلب الخرطوم

قبل عام، كانت حُمى الضنك، محصورة في مناطق شرق السودان؛ لكن ومع الحملات العاطفية التي روجت للعودة الطوعية دون مراعاة للظروف الأمنية والصحيَّة، عاد آلاف المواطنين إلى الخرطوم وأم درمان وبحري، ليجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع وباء فيروسي قاتل؛ العودة لم تكُن مبنية على أسس علمية أو صحية أو اقتصادية، بل على حنين جارف للديار استغلته السلطة كوسيلة سياسية، بينما غابت الضمانات الحقيقية لحياة كريمة أو حتى آمنة.

وفي السياق، لا يكاد يخلو حديث السودانيين هذه الأيام من ذكر “الضنك”، سواء بين من يعاني المرض مباشرة أو من يتخوف من لحظة إصابته أو إصابة أحد أفراد أسرته أو جميعهم في الغالب، وفي ظل استمرار الحرب وغياب الخدمات الأساسية، تحولت العاصمة إلى بيئة خصبة لتفشي الوباء؛ بعوض موسمي متكاثر بفعل الخريف، قطوعات كهرباء ومياه، تكدس نفايات، ومراكز صحية عاجزة عن الاستجابة للطلب المتزايد، ومخلفات حرب لم يتم التعامل معها بالجديَّة التي توازي حجم الكارثة.

صوت المواطن بين الألم والسؤال

إزاء ذلك، المواطن “طارق أبشَّر”، الذي عاد مع أسرته إلى أم درمان، كتب مخاطباً والي الخرطوم قائلاً: “عدنا إلى بيتنا قبل شهر، بمجرد وصولنا أصبت بحمى الضنك، ومن بعدي زوجتي وابنتي… العيادة في حي الجرافة تستقبل يومياً ما لا يقل عن مئة مريض، منهم 80 بحمى الضنك.. لماذا لا تعلن الولاية أننا في حالة وباء؟ ولماذا لا تغلق المدارس؟”.

كلماته تكشف حجم المعاناة وتضع علامات استفهام حول غياب الشفافية الرسمية؛ ففي حين اتخذت ولايات مثل النيل الأبيض قراراً بتعليق الدراسة 15 يوماً نتيجة تفشي المرض، لم تصدر الخرطوم أيّ إعلان مماثل رغم خطورة الوضع.

مبادرات رسمية… على استحياء

إلى ذلك، وأمام تفاقم الأزمة، أعلنت وزارة الصحّة عن “نفير التجفيف” لمحاربة البعوض الناقل للمرض، محددة يومي السبت والثلاثاء من كل أسبوع لحملات مجتمعية.. لكن هذه الحملات تبدو محدودة الأثر مقارنة بحجم الكارثة، إذ لا تتعدى كونها مبادرات توعوية وموسمية، بينما يحتاج الوضع إلى إعلان حالة طوارئ صحية حقيقية تشمل توفير العلاج، إغلاق المدارس مؤقتاً، ودعم المستشفيات بالأدوية والمحاليل الوريدية التي أصبحت بعيدة عن متناول المواطنين.

وفي السياق، زيارة عضو مجلس السيادة الفريق “إبراهيم جابر” لمقر الصندوق القومي للإمدادات الطبية جاءت كرسالة سياسية أكثر من كونها استجابة مباشرة لأزمة الضنك.. فالحديث عن “إعادة الإعمار وتوحيد المنظومة” بدا بعيداً عن واقع المواطن الذي يبحث عن دواء لا يجده في الصيدليات أو يجده بأسعار فلكية.. إذ إنّ المصل الوريدي “الدرب” الذي كان يباع بثلاثة آلاف جنيه قفز خلال أيام إلى ستة آلاف وخمسمائة، في بلد لا تتجاوز فيه مداخيل معظم الأسر قوت يومها.

اقتصاد منهك وضيق لا يُحتمل

الوباء لم يضرب صحة المواطن فحسب، بل ضرب جيبه الهش أصلاً؛ العائدون طوعياً إلى الخرطوم يفتقدون للمداخيل الثابتة، فيما فقد كثيرون وظائفهم أو مشاريعهم الصغيرة بسبب الحرب؛ تكلفة العلاج صارت عبئاً يوازي تكلفة المعيشة، إن لم تتجاوزها، ومع ارتفاع سعر الدولار وتراجع العملة المحليَّة، أصبحت ميزانية الأسرة السودانية عاجزة عن تغطية الدواء والغذاء معاً، وهكذا يجد المواطن نفسه أمام معادلة مستحيلة، إما أن يشتري الطعام أو الدواء.

إلى جانب الخرطوم، تعاني مدن مثل الفاشر من وضع أكثر مأساوية، إذّ مضى أكثر من 500 يوم على حرب حصار لم تترك سوى الجوع والمرض ومشفى واحد بالكاد يعمل، وفي كردفان ودارفور، تظل الأزمة أقل حدّة من الناحية الصحية ومتفاقمة أمنياً، لكنها أكثر قتامة من حيث انعدام المساعدات الإنسانية وتوفر الدواء، ليظل المواطن هناك خارج دائرة الاهتمام الرسمي.

قصور الدولة وفشل المنظومة

إزاء ذلك، يرى الناشط “بن عمر” أن الفشل في ملف “حمى الضنك” لا يمكن نسبه لوزارة بعينها، بل هو فشل شامل لكل المنظومة الرسمية، بما فيها رأس الدولة، فالوباء كشف هشاشة مؤسسات الدولة وعدم قدرتها على إدارة ملف صحي يهدد حياة المواطنين بشكلٍ مباشر، هذا الصمت والبطء في التعامل مع الأزمة لا يعبّران -فقط- عن ضعف الإمكانيات، بل عن غياب الرؤية والإرادة.

المفارقة أن الحكومة نفسها كانت قد ناشدت السودانيين في الخارج بالعودة إلى البلاد، لكنها لم توفر الحد الأدنى من مقومات هذه العودة، لا صحياً ولا اقتصادياً، وهكذا تحولت العودة إلى “فخ” يحاصر المواطن بين نار الحرب وضيق العيش وخطر المرض.

مأزق الإنسان السوداني

وفي السياق، ما بين ألم الجسد بسبب المرض وضغط المعيشة اليومي، يعيش السوداني اليوم حالة من “الضنك” الشامل، جسدياً ونفسياً واقتصادياً؛ حمى الضنك التي اجتاحت الخرطوم ليست سوى عرض لمرض أكبر، حرب أنهكت البنية التحتية، وانهيار اقتصادي جعل حياة الناس جحيماً، وغياب مؤسسي جعل الدولة عاجزة عن أداء أبسط وظائفها.

الصور القادمة من المستشفيات والمراكز الصحيَّة تؤكد أن الوضع يتجاوز حدود المعاناة الفردية إلى مأساة جماعية، مئات المرضى يتزاحمون يومياً، أدوية شحيحة، أسعار خيالية، وخدمات لا تفي حتى بالحد الأدنى.

نحو مسؤولية جماعية

إزاء ذلك، وفي ظل غياب استجابة حكومية فاعلة، يبقى الأمل في المبادرات المجتمعية، سواء عبر حملات التوعية أو التكافل الاجتماعي أو الضغط الشعبي لانتزاع حقوق أساسية في الصحّة والعيش الكريم، غير أن هذه المبادرات، مهما بلغت قوتها، لن تعوّض غياب الدولة أو تقاعسها.

المطلوب إعلان حالة طوارئ صحية شاملة، توفير الأدوية بشكلٍ عاجل، دعم المستشفيات، وتعليق الدراسة إلى حين السيطرة على الوباء، فصحة المواطن ليست بنداً ثانوياً يمكن تأجيله، بل هي أساس بقاء الدولة نفسها.

عجز مكتمل الأركان

وعليه؛ فإن الضنك في السودان اليوم لم يعُد مجرد وباء صحي يمكن تجاوزه، بل رمز لمعاناة شاملة يعيشها المواطن السوداني بين الحرب والمرض والفقر؛ وإذا لم تتحمل الدولة مسؤولياتها بجديَّة، فإن الخطر لن يتوقف عند حدود الخرطوم، بل سيمتد ليهدد بقاء المجتمع نفسه، فالأوبئة لا تنتظر الحسابات السياسية، والمعاناة اليومية لا ترحم، وصوت المواطن الذي يئن اليوم قد يتحول غداً إلى صرخة تعجز كل بيانات النفي والتطمين عن إسكاتها.

 

 

Exit mobile version