(حفرة).. عرض مسرحي يتألق في الجامعة الأمريكية بالقاهرة

محمد إسماعيل – أفق جديد

“أصبح خبر الموت عاديًا”.. بهذه العبارة الموجعة افتتحت مسرحية “حفرة” عرضها الأول على مسرح الجامعة الأمريكية. كلمات تسللت إلى القلوب مع موسيقى حزينة، لتضع الجمهور مباشرة أمام مرآة الحرب وما خلّفته من جراح لا تندمل.

قدمت مسرحية “حفرة” عرضها الأول، مساء الاثنين الماضي، على مسرح الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وتناول العمل موضوع الحرب في السودان وما خلّفته من آثار مدمرة على المجتمع، خاصة من الناحية النفسية، وسط تفاعل لافت من الجمهور.

وشهدت القاعة حضوراً كثيفاً من السودانيين، حيث حظي العرض باستحسان واضح، لما حمله من مقاربة مباشرة لمعاناة الحرب وما تسببت فيه من متاعب متعددة في حياة السودانيين.

ويأتي هذا العرض ضمن مشروع التراث الثقافي للمهاجرين واللاجئين بالجامعة الأمريكية، وهو مبادرة تهدف إلى تسليط الضوء على إسهامات وتجارب اللاجئين والمهاجرين، وتمنحهم مساحة للتعبير الفني في ظل أوضاع اللجوء القاسية، وشارك في أداء المسرحية كل من الفنانات: انتصار محجوب، وسلمى يعقوب، وإيمان حسن.

المسرحية عكست الذات المتشظية للمتلقي

يقول الناقد الدكتور شمس الدين يونس لـ”أفق جديد”: “يتحرك العرض المسرحي في رؤيتين مختلفتين منذ الوهلة الأولى، إذ إن الممثلات الثلاث: سلمى يعقوب، وانتصار محجوب، وإيمان حسن، يتحدثن عن تنازع مخرجين على رؤية العرض، كلٌّ يريد فرض رؤيته، ولا يتحدد من المنتصر بفرض رؤيته”.

وأضاف، “وهنا يسير العرض في سياق الرؤيتين، ومن خلالهما يتحدد مغزى العرض، وهما: رؤية تلغي تراتبية عناصر الدراما كما حددها أرسطو: الحبكة، الشخصية، الفكرة… إلخ. وثانيًا: رؤية ذهبت إلى الإعلاء من الأداءات غير اللفظية للعرض: الصورة، الموسيقى، الحركات الجسدية… ضمن كولاج مسرحي أدى في بعض الأحيان إلى غموض في المعاني التي تصل مجزأة، فلا تحقق فورية المعنى والفهم”.

ولفت إلى أنه في الوقت نفسه، أبقى العرض على تراتبية أرسطو من خلال الإعلاء من شأن الوظيفة المرجعية للمعنى، التي قدّمت للمتلقي عالماً واضحاً ومعاني جاهزة جعلته لا يغادر أطره المجتمعية والثقافية ليندمج مع العرض وقصص وحكايات هؤلاء النسوة الثلاث.

وتابع قائلًا: “وقد اندمج الحضور اندماجاً كاملاً، إذ ذرفوا الدموع وهتفوا: “حرية… سلام… وعدالة”، في محاولة لتوحيد الرؤى، فكان العرض مزيجاً بين الرؤيتين، قدّم رؤى ونقداً سياسياً وفق المرجعية السياسية للسودان، وما أفرزته الحرب من مآسٍ وعنف. ولذلك كان تشظي العرض انعكاساً لذات المتلقي المتشظية”.

إشعال نار الحواس:

يقول الناقد المسرحي صلاح يوسف: “لعل ضربة البداية التي أرادت المؤلفة والمخرجة ماجدة نصر الدين أن تشد بها انتباهنا لهذا العمل المسرحي، هي تذكيرنا – ونحن بالطبع لم ننسَ – بأننا جميعاً واقعون في حفرة، ولا بد من الخروج منها لنعود إلى حياتنا الطبيعية سالمين، متعافين، منتصرين. وقد عبّرت عن ذلك من خلال ثلاث ممثلات مقيدات بحبال مدلاة من سقف الخشبة إلى أسفل الوسط الذي من المفترض أن يكون الحفرة، وهن يحاولن الفكاك، ثم البحث عن وسيلة للخروج منها. لكن يبدو أنه حتى لو أفلحن في فك القيود – وقد حدث ذلك فعلاً – سيظل السؤال قائماً حول وسيلة الخروج”.

وأردف بالقول: “باعتبار أن هذا الحال يُجسَّد مسرحياً، فمن الطبيعي أن يتم عبر مخرج يقع عليه الدور الأساسي فنياً في انتشالهن من الحفرة. غير أننا نتفاجأ عند بداية العرض بوجود مخرجين يتنافسان حول كيفية إخراج العمل، أو بالأحرى إخراجهن، في حين أن لكل منهما رؤيته الخاصة التي تتعارض مع رؤية الآخر، وهو ما لن يحقق في النهاية مخرجاً من الورطة”.

وأشار صلاح يوسف إلى وجود طرفين متنازعين لن يتفقا على كلمة سواء، موضحاً أن الممثلات الواقعات في الحفرة يفكرن في صرف النظر عن المخرجين، ويلجأن إلى عرض مأساتهن مباشرة أمام الجمهور، الذي يعي أصل المشكلة إن لم يكن طرفاً فيها، ضاربات برؤى المخرجين وصراعهما عرض الحائط.

وأضاف: “لقد تجلى ذلك حين عكست كل واحدة منهن تجربتها، لنعرف كيف انتهى بهن المطاف إلى الوقوع في الحفرة، وما أكثر الأسباب المؤدية لذلك من أشكال الترهيب والقتل والاغتصاب والنهب والإرغام على النزوح وترك الديار، فضلاً عن الدمار الناتج عن المعارك الدائرة دون بوادر للحل”.

وأوضح يوسف أنه، قبل الولوج في دهاليز النص – المأخوذ من وقائع عاشها أو علم بها كل من اكتوى بنار الحرب – كان يتمنى لو أن المؤلفة أظهرت جانباً من خلافات المخرجين بصورة أوضح، عبر إفادات تسردها الممثلات حين علمن من إحدى العناصر المساعدة في العرض، لدى ظهورها في البداية من الكواليس، لتهمس لهن بمعلومة التنافس والخلاف بين المخرجين. ويرى أن المؤلفة كان يمكن أن تتوسع هنا في عكس جوانب الصراع حول هذه الجزئية بتوليف مختلف المفارقات، بدلاً من اقتصار الحوار على رفض الفكرة انطلاقاً من استحالتها، لتعارضها مع مقتضيات وأدبيات الإخراج المسرحي، إذ لا يُعقل أن يكون هناك أكثر من مخرج للعمل المسرحي الواحد، وبذات طاقم الممثلين أو الممثلات، في الوقت نفسه.

وأضاف أن التجارب التي مررن بها لم تكن خافية على الجمهور، لذلك تم الحكي والسرد وتقريب الوصف وتجسيد الوقائع على الخشبة دون تهويل أو شطط، حتى وصل الأمر إلى أن “أصبحنا نتقبل أخبار الموت بصورة عادية ودون اندهاش”. وهو ما أدى إلى تحريك المشاعر وإشعال نار الحواس التي لم تكن أصلاً هامدة، فتجاوب الجمهور مرات عديدة بالمقاطعة والهتاف والتصفيق، مرفوعاً بشعار الثورة: “حرية، سلام، وعدالة”، وهو ما أعاد للذاكرة أجواء الاعتصام وما أفضى إليه من تغيير.

ويرى يوسف أن أداء الممثلات الثلاث كان رائعاً ومنسقاً، مشيراً إلى أن المخرجة أحسنت الاختيار حين أسندت هذا العمل إلى انتصار محجوب (بيرين)، وسلمى يعقوب، وإيمان حسن، مؤكداً أن الانسجام بينهن ساعد على توصيل الفكرة بأداء واقعي.

كما أشاد صلاح يوسف بفريق العمل الفني، وعلى رأسهم: عليش، وحاتم محمد علي، وأمنية (مساعدة المخرجة)، وإيهاب بلاش، والموسيقي الشافعي شيخ إدريس.

العرض قدّم صور المعاناة حكياً وتمثيلاً:

الدكتور كمال يوسف أكد أن هذا العرض (حفرة) تم تحت مظلة مشروع تتبع التراث الثقافي للمهاجرين واللاجئين بالجامعة الأمريكية.

ويرى أن العرض تكوَّن من صورةٍ مشهدية رسمها ثلاثي الممثلات اللائي تشاركن بطولة المسرحية، في توزيعٍ متسق للأدوار بينهن، وبديناميكية عالية في الحركة على خشبة المسرح، وعلى مستوى الحوار الذي تناول وقع مأساة حرب 15 أبريل على الإنسان السوداني في مختلف مراحلها منذ انطلاق رصاصتها الأولى وحتى الوقت الراهن.

وقال: “العرض قدّم صور المعاناة حكياً وتمثيلاً. بشكل شخصي أرى أنه قد تكاملت عناصر العرض من صورة مشهدية، وحوار، وموسيقى تصويرية في تعميق حجم مأساة الحرب على إنسان السودان، وأنها يمكن أن تُعد وثيقةً تصف مشاهد حقيقية مرّ بها السودانيون في هذه الحرب. وأزجي التحية لكل فريق العرض: المؤلفة والمخرجة ماجدة نصر الدين، الممثلات انتصار، وسلمى، وإيمان، والإضاءة إيهاب بلاش، والإشراف محمد عليش، وحاتم محمد علي، وتقدير خاص للموسيقار الشافعي شيخ إدريس الذي صمّم وأدّى الموسيقى التصويرية للعرض”.

التشكيلية سوزان إبراهيم قالت إنها استمتعت جداً بالمسرحية من حيث الفكرة، والنص، والأداء، والمؤثرات المصاحبة، والرؤية الإخراجية.

وأشارت في إفادتها إلى أن الإيماءات والكلمات والأحاسيس من خلال أداء الممثلات وصلت بلا شك إلى الجمهور، قائلة: “استطعن أن يعبّرن عنّا بكل بساطة حتى بدون ديكور… فكرة العرض وصلت، والإحساس وصل بعمق الحقيقة والألم الكامن فينا”.

وأضافت: “تمنيت فقط أن يتم ربط الجزء الأخير بالجزء الأول من العرض وفكرة الحفرة، لأنه رغم سلاسة الأداء ونجاحه في شد انتباه المشاهد، إلا أنه حدثت نقلة إلى جزئية ثانية كانت – في رأيي – تحتاج إلى ربط أوضح بالجزئية الأولى ومفهوم الحفرة، وما سبّبه الطرفان المتنازعان من تورط وعمق أكبر لها، وما إذا كان بالإمكان الخروج منها وما إلى ذلك”.

بقينا نستقبل أخبار الموت عادي:

الصحفية سماح طه قالت: “على خشبة مسرح إيوارت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وقفت البنيات الثلاث: انتصار محجوب، وسلمى يعقوب، وإيمان حسن، ليقدمن عرضهن المسرحي (حفرة)، برعاية مشروع التراث الثقافي للمهاجرين بالجامعة الأمريكية. ثلاث بنات، لابسات سواد ومبدعات، جعلْنَ من المسرح مرآةً لجرحنا الجمعي وصوتاً لوجعنا المستتر”.

وأضافت: “يكفينا نحن النساء فخراً بانتمائهن إلينا، فهكذا هن دائماً نساء بلادي، في الموعد عند لحظة النداء. قدمن جرعة مسرحية قادرة على إحياء الروح التي أنهكتها كثرة المصائب، تلك الروح التي حسبناها ماتت لكنها تنهض كل مرة بفعل الفن”.

وزادت سماح بالقول: “في هذه (الحفرة)، حكت كل واحدة منهن قصتها، وكل حكاية وجدت صداها في القاعة، كأنها الحكاية الخاصة بكل متفرج. غصّت الصالة بأحاسيس الوجع المكبوت. كانت تلك اللحظات، التي امتدت لما يقارب الساعة، بمثابة تنويم مغناطيسي أبحرنا إلى عوالم آلامنا الخفية التي نحاول إخفاءها، لنتظاهر بأننا أقوياء وأن الدنيا لا تزال بخير”.

وأضافت: “وسط العرض مرّت جملة صغيرة اخترقت القلوب: (بقينا نستقبل أخبار الموت عادي). جملة واحدة فقط، لكنها كسرت الحاجز بين الخشبة والجمهور، وأصابت الجميع في مقتل، إذ لامست جرحاً جمعياً لم يعد يحتمل. وحين أُسدلت الستارة، حاول الناس أن يداروا دموعهم الساخنة.

عبّر عن شعارات ثورة الشباب المؤودة:

الإعلامي صلاح الباشا قال إن الجمهور ظل في المسرح يقاطع هذا العمل بالتصفيق المتواصل، ومرات أخرى بالهتاف المعبّر عن شعارات ثورة الشباب المؤودة (حرية، سلام، وعدالة). خاصة وأن 90 بالمائة من الحضور كانوا من عنصر الشباب الذين تكتظ بهم أحياء القاهرة وشوارعها.

وأضاف: “هذا العمل الدرامي الهادف قد أدته ثلاث ممثلات فقط، وبمصاحبة الموسيقى التصويرية من خلف ستار، لتكتمل لوحة المضامين مع مقاطع الموسيقى. كان أداء الثلاثة باهراً، متواصلاً، ومنسجماً جداً طوال الستين دقيقة، وهي مدة العرض المسرحي، في محاولات الخروج من الحفرة التي لا يزال شعبنا في السودان صابراً ومحتسباً للخروج منها بسبب صراعات مقاعد الحكم التي لم يكن الشعب طرفاً فيها إطلاقاً”.

وأشار إلى أن هذه المسرحية الجادة ذات المضامين المعبرة عن واقع الحال، أعادتنا إلى عصر الأعمال المسرحية القوية خلال مرحلة السبعينيات من القرن الماضي.

 

 

Exit mobile version