أهل السودان بلا بواكي.. شعب يموت بالحرب والضنك وسط سلطة تكتفي بالمشاهدة

الزين عثمان

في قلب حرب لا تهدأ، يواجه السودانيون وباء صامتًا لا يقل فتكًا عن الرصاص. حمى الضنك تتمدد في الخرطوم والجزيرة وولايات أخرى، لتكشف عجز الدولة وانهيار النظام الصحي، وتضع ملايين الناس بين فكي المرض والفقر، في بلد صار فيه البحث عن “بندول” معركة أخرى من معارك البقاء.

وفي السودان المنهك، تتوالد الكوارث كما تتوالد البعوضة فوق برك الماء الراكدة. لم يعد الرصاص وحده سيد الموت، فهناك قاتل آخر يزحف على البيوت بلا استئذان، يدخل إلى كل غرفة، ويصيب كل جسد: حمى الضنك.

الخرطوم التي كانت تعرف يومًا بعاصمة النيلين، باتت اليوم تلقب بعاصمة الأوبئة، حيث لا يخلو منزل من مصاب، وحيث صارت الحمى ضيفًا ثقيلًا يفرض على الجميع امتحان البقاء في واقع صحي ينهار أمام أعينهم.

الأمر لم يعد مجرد أزمة دواء أو نقص في محلول “بندول”، بل تحوّل إلى مقياس على مدى عجز الدولة، ومرآة لسياسات الاستغلال التي تترك المرضى يواجهون مصيرهم بين السوق الموازية ومشافٍ بلا إمكانيات.

ومع كل يوم يمر، تتضاعف أرقام الإصابات، وتتسع رقعة الوباء من الخرطوم إلى الجزيرة وسنار والنيل الأزرق وحتى الشمال، لتصبح الحمى عنوان المرحلة، ومصير أمة تموت مرتين: مرة بالرصاص، ومرة بالوباء.

 

خرطوم الأوبئة

في عاصمة سودان الحرب التي لا يملك الناس فيها قوت يومهم، تفتك “حمى الضنك” بالأجساد الموبوءة بسوء التغذية، وكذلك يستحيل الحصول على جرعة دواء في بلد يمكن إعادة تعريفها ببلد “الاستغلال”.

لأنه يمكنك أن تموت بحمى الضنك، ويمكن أن يعاد قتلك وأنت في طريق بحثك عن محلول “بندول” لمقاومة الحمى، حيث ارتفعت قيمته لأسعار فلكية في وجود حكومة تدور في كل فلك غير فلك كيف تجعل الناس يحافظون على حياتهم.

تعاني ولاية الخرطوم من أوضاع صحية مقلقة نتيجة تفشي الأوبئة وسط انعدام الأدوية وتدني الخدمات الطبية في المستشفيات، وكشفت شبكة أطباء السودان عن تسجيل 461 إصابة جديدة بحمى الضنك بولاية الخرطوم، بينها 4 وفيات خلال أسبوع.

وقالت المتحدثة باسم شبكة أطباء السودان، تسنيم الأمين، لـ”سودان تربيون” إن النسبة الأكبر من الإصابات سُجلت في محلية جبل أولياء جنوب الخرطوم، كان ذلك في أواخر شهر أغسطس، بينما تمددت الأمراض الآن بشكل مخيف، حيث لم يعد منزل في كامل الخرطوم يخلو من وجود مصاب بحمى “الضنك”.

وحمى الضنك “هي مرض فيروسي ينتقل عن طريق البعوض، خصوصاً بعوضة Aedes aegypti، وقد تتسبب بمرض خفيف أو شديد قد يؤدي إلى مضاعفات، مثل النزف أو حتى الموت إذا لم تُعالج الحالة بشكل مناسب.

وتنتقل حمى الضنك إلى الإنسان عن طريق البعوض الذي يمتص دم شخص مصاب، الأمر الذي يشكل سرعة في انتشار الحميات من هذا النوع التي قد تتفاقم إلى حالة من النزيف ودخول المريض في غيبوبة كاملة.

أرقام مخيفة

وشكلت بيئة ما بعد الحرب في العاصمة السودانية، البيئة المثلى لتوالد البعوض في ظل عجز السلطات عن مكافحة المرض والوقاية منه قبل وقت مبكر بردم البرك وتصريف مياه الأمطار.

يؤكد عاملون متطوعون في غرف الطوارئ بالعاصمة الخرطوم أن عدد الإصابات بحمى الضنك مرتفع ويصل إلى أرقام مخيفة (مريضان بين كل خمسة أشخاص).

وهذه الأرقام تؤكدها وبشكل حاسم طبيعة الجدل اليومي في المدينة، وبالطبع حقيقة المصابين في كل منزل، حيث يقول المواطن صلاح عبد الحميد لـ”أفق جديد”: “لم ينج أحد من الحمى في المنزل فهي تعبر بكل أفراد المنزل وكأنها امتحان على الجميع أن يخضع له قبل أن يكمل”.

أسعار فلكية للمحاليل الوردية

لا يبدو الأمر هنا رهينًا فقط بالإصابة بالحمى بقدر ما هو امتحان يتعلق بالقدرة على مواجهتها في ظل واقع صحي شبه منهار، مشافٍ لا تعمل وحتى التي تعمل تعاني من نقص حاد في كل المطلوبات، مع عدم توفر محاليل “البندول” التي وصلت لأسعار فلكية في السوق السوداء، هذا إن تم الحصول عليها.

 

أقر وزير الصحة السوداني، هيثم محمد إبراهيم، في 20 سبتمبر 2025، بوجود أزمة في توفر المحاليل الوريدية في القطاع الخاص بولاية الخرطوم، مؤكدًا أن أدوية علاج حمى الضنك توزع مجانًا في المستشفيات الحكومية.

وأضاف: “توجد أزمة في المحاليل الوريدية “الدربات” لأنها كانت تغطي كل الصيدليات والقطاع الخاص والمستشفيات الخاصة والصيدليات الخارجية”.

وتابع: “المحاليل الوريدية الموجودة حاليًا تصرف مجانًا للمرضى، ويتم توزيعها في المستشفيات فقط ولا تذهب للقطاع الخاص ولا الصيدليات الخارجية”.

وأكد الوزير هيثم إبراهيم أن الأشخاص المنومين في المستشفيات يصرف لهم الدواء مجانًا، مشيرًا إلى أن الدواء موجود في ولاية الخرطوم بالمخازن ومراكز العلاج ويتم التوزيع للمستشفيات.

وتواجه وزارة الصحة انتقادات حادة لجهة عجزها عن مجابهة الأوبئة التي تحصد أرواح السودانيين، ويتهمها البعض بأنها جزء من عملية الاستغلال التي يواجهها المرضى في سبيل الحصول على الدواء.

 

في كل المدن “المشهد واحد”

مع انتشار حمى الضنك لا يبدو المشهد في الجزيرة مختلفاً عن المشهد في ولاية الخرطوم، حيث تعاني الولاية من تفشٍ واسع لأمراض الملاريا وحمى الضنك والتيفوئيد، مع نقص حاد في الأدوية، خاصة أدوية البندول التي تُعد العلاج الرئيسي لحمى الضنك.

وأصدرت حكومة الولاية قراراً قضى بتعليق الدراسة في المدارس بسبب الحميات المنتشرة، وهو القرار الذي يؤكد على ازدياد حجم الإصابة بالوباء، وهو أمر لا يمكن وصفه بحسب مواطنين في الولاية الذين صبوا جام غضبهم على ما أسموها سياسة التجاهل الحكومي لحياة الناس، وبالطبع تبني طرق من شأنها التقليل من حدة انتشار الأمراض منذ عمليات الرش وردم البرك، بالنسبة لهم فإن السلطة مشغولة بكل شيء ما عدا حياة الناس، وبالطبع حملوها مسؤولية تنامي سوق الدواء الموازية.

ومن الحصاحيصا قال مرصد ولاية الجزيرة لحقوق الإنسان إن المدينة تشهد انتشاراً واسعاً لحمى الضنك، إلى جانب تفشي مرض الكبد الوبائي بصورة مقلقة، مضيفًا أن من بين كل 3 أشخاص في مدينة الحصاحيصا أُصيب واحد بحمى الضنك مع وجود حالات وفيات غير محصورة.

وأضاف المرصد في بيان “نناشد منظمة الصحة العالمية بالتدخل العاجل للحد من تفاقم الأوضاع الصحية في ولاية الجزيرة، كما نطالب الجهات المسؤولة في الدولة بإعلان الجزيرة منطقة كوارث صحية، واتخاذ الإجراءات الفورية لحماية المواطنين، والمطالبة بإعلان المنطقة منطقة كوارث يؤكد على حقيقة ما آلت إليه الأوضاع، كما إنه يؤكد في المقابل على تمدد الخطر من الولاية نحو ولايات أخرى، وبالطبع استقبال المخاطر نفسها فلم يعد في السودان مكان خال من المرض، من المؤكد لا يعدو الأمر أن يكون مختلفًا في ولايات سنار والنيل الأزرق وحتى في الولايات الشمالية وفي منطقة نهر النيل، الإجابة الوحيدة لسؤال السودان هي “الحمى” الضنك الملاريا التيفويد وربما الكوليرا في أماكن أخرى، مع الوضع في الاعتبار أن هذا الواقع مسحوب عنه أرقام الموت في كردفان ودارفور التي يواجه أهلها الموت بالرصاص المباشر، وبالطبع بالأمراض التي لا يملك الكثيرون أرقامًا بخصوصها في ظل تمدد الحرب.

وسط أنينهم في المنازل، في شوارعهم وهم يبحثون عمن يبيعهم “العافية” ولو بأسعار خيالية عند المشافي، حيث لا شيء غير المرض وكادر طبي لا يبدو حاله أفضل من حال من يقدمون لهم خدماتهم يرددون السؤال “ألا ترى السلطة الكارثة التي تحيط بشعبها؟ وإن كانت ترى فلماذا لا تتخذ الخطوات التي ينبغي عليها القيام بها، وإن كانت عينها بصيرة ويدها قصيرة فما المانع من أن تستعين بالمنظمات لتخبرها عن “الكارثة” فما يحدث لا يمكن الصمت عليه.

لكن حتى إعلان الكارثة يحتاج حكومة تمتلك القدر الكافي من المسؤولية، يحتاج حكومة يمثل الشعب عندها أولوية، لا سلطة تنظر إليه وهو يموت بالحرب وبالضنك معاً.

 

 

Exit mobile version