محمد عمر شمينا
في السنوات الأخيرة ظل السودان يعيش على وقع أزمات متداخلة، تتناوب فيها الحروب والكوارث الطبيعية والانهيارات الاقتصادية، حتى أصبح البلد ساحة مفتوحة للأوبئة والأمراض التي وجدت في هشاشة الوضع الصحي تربة خصبة للانتشار. فالملاريا مثلاً، التي ظلت لعقود مرضاً مزمناً في مناطق واسعة، عادت لتصبح القاتل الأول في كثير من الولايات، بينما اجتاحت حمى الضنك مدناً عديدة بصورة لافتة، لتكشف حجم الضعف الذي يعيشه النظام الصحي. هذه الأوبئة ليست مجرد تحديات صحية عابرة، بل هي انعكاس مباشر للواقع الإنساني المرير الذي يعيشه الملايين من السودانيين.
الملاريا وحدها تمثل قصة طويلة في السودان، إذ تنتشر على مدار العام، وتزداد حدة مع مواسم الأمطار والفيضانات. ضعف مكافحة النواقل وغياب حملات الرش الدوري جعل من بعوض الأنوفيلس سيداً على الأحياء والقرى. ومع تراجع الخدمات الصحية، أصبح التشخيص المتأخر والدواء غير المتوفر سبباً رئيسياً في ارتفاع معدلات الوفيات، خاصة بين الأطفال والحوامل. ورغم محاولات بعض المنظمات الدولية توفير الناموسيات والأدوية، إلا أن اتساع رقعة البلاد وحركة النزوح المستمرة جعلت الجهود مشتتة وغير كافية.
في المقابل، برزت حمى الضنك في السنوات الأخيرة كوجه جديد من أوجه المعاناة. فالمناخ الحار والرطب، وتكدس النفايات، وغياب أنظمة الصرف الصحي، والجثث التي لم تُدفن جيداً في مناطق النزاع والمعسكرات، كلها وفرت بيئة مثالية لتكاثر بعوض (الزاعجة المصرية) الناقل للمرض. انتشرت الحالات في شرق السودان ثم امتدت إلى ولايات أخرى، لتضيف عبئاً جديداً على مجتمع منهك أصلاً. ما يثير القلق أن هذا المرض لا يملك علاجاً محدداً حتى الآن، والوقاية فيه أصعب في ظل غياب التوعية والقدرات الطبية اللازمة.
ولم تتوقف القصة عند هذا الحد. الكوليرا مثلاً عادت في أكثر من موجة خلال العقد الماضي، مستفيدة من ضعف شبكات المياه المأمونة، وانتشار الآبار السطحية، وانعدام الرقابة الصحية. وفي بعض المناطق الحدودية ظهرت حالات من الحمى الصفراء، وهو مرض كان يُعتقد أنه اندثر أو تمت السيطرة عليه. هذه السلسلة من الأوبئة تشير بوضوح إلى أن السودان تحول إلى بؤرة هشة مفتوحة أمام أي مرض وافد أو محلي، وأن الفاصل بين الوضع الحالي وحدوث كارثة صحية شاملة أصبح رقيقاً للغاية.
الوضع الإنساني المرتبط بهذه الأوبئة يزيد الصورة قتامة. ملايين النازحين يعيشون في معسكرات مكتظة بلا خدمات صحية أو بيئية، مما يجعل انتشار الأمراض أسرع وأوسع. الأطفال يعانون من سوء التغذية، وهو ما يقلل من مناعتهم الطبيعية ويجعلهم أكثر عرضة للإصابة والمضاعفات. المستشفيات في المدن الكبرى تعمل بأقل من نصف طاقتها، والأطباء والممرضون بين مهاجر أو عاطل عن العمل بسبب الظروف. أما الأدوية، فهي إما غالية الثمن أو نادرة الوجود. حتى المراكز الصحية التي كانت تقدم خدمات أولية انهارت مع استمرار الحرب والنزوح، لتترك الناس فريسة للأوبئة بلا سند.
من زاوية أخرى، يفاقم تغير المناخ الأزمة. فمواسم الأمطار أصبحت أكثر شدة، والفيضانات السنوية تغمر القرى وتترك وراءها بركاً راكدة تشكل بؤراً مثالية للبعوض. وفي المقابل، موجات الجفاف الطويلة تضعف الزراعة وتدفع الناس إلى الهجرة، ليزداد الاكتظاظ في المدن ومعه انتشار الأوبئة. وهكذا تتضافر الكوارث الطبيعية مع الكوارث السياسية والاقتصادية لتصنع دائرة مغلقة من الأزمات.
المجتمع الدولي حاول التدخل عبر حملات طارئة، لكن هذه الجهود تبقى أشبه بإسعافات أولية لجسد يحتضر. المنظمات الإنسانية تعمل بموارد محدودة وتحت ظروف أمنية بالغة التعقيد. وغالباً ما يكون التدخل متأخراً بعد أن يكون المرض قد تفشى. المطلوب أكبر من مجرد توزيع ناموسيات أو أدوية، إذ أن الأزمة في جوهرها بنيوية تتعلق بضعف النظام الصحي العام وانهيار البنية التحتية.
وهنا يبرز دور الحكومة الانتقالية ومجلس السيادة، فالأوبئة لم تعد شأناً صحياً فحسب، بل باتت تهديداً مباشراً للأمن القومي السوداني. انتشار الملاريا وحمى الضنك والكوليرا يعني استنزافاً لقدرات المجتمع، وتراجعاً في الإنتاج، وازدياداً في معدلات الوفيات، وكلها عوامل تقوض استقرار الدولة. من هذا المنطلق، يصبح إعلان حالة الطوارئ الصحية ضرورة قصوى، ليس كإجراء شكلي بل كخطة وطنية متكاملة لمكافحة الأمراض. فالحكومة مطالبة بتعبئة الموارد المتاحة، والتنسيق مع المنظمات الدولية، وفرض سياسات وقائية عاجلة مثل حملات النظافة والرش ومراقبة المياه والتعامل الآمن مع الجثث. كما أن على مجلس السيادة أن ينظر إلى هذه الأزمة باعتبارها جزءاً من أمن السودان واستقراره، لا مجرد ملف صحي يدار ببطء في أروقة البيروقراطية.
الأوبئة في السودان ليست مجرد أمراض يمكن التعامل معها طبياً، بل هي مرآة للأزمة الإنسانية الأعمق. عندما يضطر طفل إلى النوم بلا غذاء كافٍ، وعندما تلد امرأة في معسكر نزوح بلا رعاية طبية، وعندما يموت شاب في مقتبل العمر بسبب مرض يمكن علاجه لو توفر الدواء، فهذا يعكس صورة بلد يعيش على حافة الانهيار الإنساني. لذلك، فإن أي حديث عن مكافحة الأوبئة لا يمكن فصله عن معالجة الوضع الإنساني الشامل من غذاء ومأوى ومياه نقية وخدمات صحية.
المطلوب اليوم هو مقاربة شاملة، تبدأ بإيقاف الحرب التي استنزفت كل الموارد، مروراً بإعادة بناء مؤسسات صحية قادرة على الاستجابة، وانتهاءً بتعزيز الوعي المجتمعي حول الوقاية والنظافة. على المجتمع الدولي أن يتعامل مع السودان كأولوية إنسانية عاجلة، لا كملف ثانوي. فاستمرار الوضع الحالي يعني أن الأوبئة ستتضاعف، وأن الأعداد ستتحول من مئات الآلاف إلى ملايين.
الأمل لا يزال قائماً إذا ما توافرت الإرادة. فالسودان يمتلك تاريخاً طويلاً من الصمود، وشعبه أظهر قدرة على التكيف في أحلك الظروف. لكن هذه القدرة وحدها لا تكفي أمام أمراض تتكاثر بسرعة وتقتل في صمت. لا بد من رؤية إنسانية جديدة تعطي الأولوية للحق في الحياة والصحة، وتتعامل مع الأوبئة باعتبارها جرس إنذار لما هو أعمق من مجرد مرض إنها إنذار بانهيار العقد الاجتماعي، وبتآكل أبسط حقوق الإنسان.
إن إنقاذ الأرواح اليوم لا يتطلب فقط أطباء وأدوية، بل يتطلب شجاعة سياسية ووعياً إنسانياً يضع الإنسان السوداني في قلب الاهتمام. فالأوبئة، مهما اختلفت أسماؤها، هي في النهاية انعكاس واحد لحقيقة واحدة (أن السودان بحاجة ماسة إلى صحوة إنسانية شاملة)، قبل أن يغرق في بحر من الأمراض التي لا تعرف حدوداً ولا تنتظر حلولاً مؤجلة.