في هذا الركام من أصوات الحرب، حيث ترتفع الهتافات الممجوجة وتُعاد مشاهد الدماء آلاف المرات على الشاشات الصغيرة، هناك موت آخر يمر خافتًا، يدفن نفسه في صمت كأنما يخجل من أن يطلب انتباهًا. في مخيم أبوشوك، لم تقتل القذائف أطفالًا ولا اخترقت أجسادهم الرصاصات، لكن الموت وجد إليهم طريقًا أشد قسوة: الجوع والمرض. أكثر من ثلاثة وسبعين طفلًا دون الخامسة، واثنان وعشرون من كبار السن، انطفأوا في أربعين يومًا. خبر وحيد، عابر، يذوب في بحرٍ من بيانات النصر والهزيمة، ولا يثير إلا أسى عابرًا لدى من لا يزال قلبه يتنفس.
ما الذي يجعل مشهد جثة ممزقة يحصد ملايين المشاهدات، بينما لا يجد موت عشرات الأطفال جوعًا سوى أسطر باهتة في بيان محلي؟ أية قسوة هذه التي جعلت عيوننا أسيرة لصور العنف العاري، بينما لا تتحرك لمشهد طفل يتنفس بصعوبة، وقد جفّ اللبن في ثدي أمه، وانطفأت ملامحه تحت وطأة السهر والحرمان؟
الحرب، في حقيقتها، ليست ما يُعرض في مقاطع الفيديو ولا ما يرصده الناشطون بعدسات هواتفهم. الحرب هي هذا الجوع البطيء، هذا المرض الذي يتسلل في الظلام، هذا الموت الذي لا يجد حتى من يلتقط له صورة. الحرب ليست ضجيج الرصاص، بل صمت المقابر الصغيرة التي تتكاثر في أطراف المخيمات.
إن مأساة أبوشوك لا تنفجر في وجهنا كحدث صاخب، لكنها تمارس فعلها العميق كجرح أخلاقي. الأطفال الذين ماتوا لم يعرفوا لماذا يتقاتل الكبار، ولم ينشغلوا بمفردات مثل السيادة أو الحكم أو الخرائط. كانوا يعرفون فقط أن بطونهم خاوية، وأن الماء الذي يشربونه ملوث، وأن المرض حين يهاجمهم لا يجد دواءً يوقفه. كانوا يعرفون أن العالم كله، بقدراته وأسواقه وأضوائه، انشغل عنهم.
لكننا نحن، أبناء هذه البلاد، نحن الذين نجلس خلف الشاشات ونتداول المشاهد كأنها مادة تسلية، نحن أول من يستحق هذا الخجل. كيف صرنا نحتفي بالموت الصاخب وننسى الموت الصامت؟ كيف تسللت إلينا وحشية تجعلنا نقيس حجم المأساة بعدد الطلقات وصور الأشلاء، لا بعدد القبور الصغيرة التي تُحفر بلا أسماء؟
إن موت 73 طفلًا ليس مجرد رقم. إنه انهيار معنى الإنسانية فينا. إنه إعلان بأن الحرب لم تعد تقتل بالسلاح وحده، بل صارت تقتل باللامبالاة. فكل طفل رحل جوعًا هو شاهد على أن الضمير الجمعي استقال من مهمته. وكل قبر في أبوشوك يقول لنا بوضوح: أنتم الذين تركتم إنسانيتكم تسقط في غبار السياسة وصخب المعارك.
لقد تحولت المأساة إلى استعراض. تُرفع مقاطع الفيديو كما لو كانت أوسمة على صدور الافتراضيين، ويتنازع الناس حول “أيّ فريق انتصر” في موقعةٍ ما، بينما يتساقط الأطفال في المخيمات مثل أوراق الخريف. هل ندرك أن أعظم ما تفعله الحرب ليس تدمير المدن بل تدمير قلوبنا، حين تصبح قاسية على هذا النحو؟
إن مأساة أطفال أبوشوك لا ينبغي أن تكون مجرد عاطفة طارئة سرعان ما تخبو. إنها مرآة نُجبر على النظر إليها، لنرى وجوهنا الحقيقية وقد انكشفت. ماذا نفعل نحن، الذين نزعم أننا نملك الكلمة والقدرة على التعبير، سوى أن نكتب ثم نطوي الصفحة؟ أليس هذا العجز مشاركة في الجريمة؟
في قلب كل إنسان مساحة يفترض أن تبقى عصيّة على الحرب، مساحة للرحمة، للشفقة، للرجفة أمام موت طفل بريء. لكن يبدو أن الحرب في السودان لم تكتفِ بتمزيق الجغرافيا، بل تجاوزت ذلك لتمزق هذه المساحة الداخلية فينا جميعًا.
قد يختلف المتقاتلون حول أي راية تُرفع وأي سلطة تُمسك بالدفة، لكن الحقيقة الأشد وقعًا هي أن الحرب تحفر خندقًا آخر: خندقًا بيننا وبين إنسانيتنا. وموت أطفال أبوشوك، بصمته الفادح، هو الصرخة التي تكشف هذا الانفصال.
ليس المطلوب أن نبكي علنًا أو نرفع شعارات إنسانية، بل أن نستعيد ذلك الارتجاف الفطري أمام المأساة. أن نشعر بالخجل كلما تذكرنا أن ثلاثة وسبعين طفلًا ماتوا لأن الناس كانت مشغولة بمقاطع العنف التي تصلح للاستهلاك اللحظي.
هؤلاء الصغار لم يتركوا وراءهم وصايا ولا بيانات، لكنهم تركوا سؤالًا لا يزول: ماذا تبقى من إنسانيتنا إذا لم ترتجف أمام موتهم؟