بينما يواجه السودانيون أزمات متلاحقة في الغذاء والصحة والأمن، انتشرت أوبئة وأمراض مختلفة، في ظل شح الأدوية، جراء القتال الدائر في البلاد، تمددت في ظلال الحرب مافيا الأدوية المغشوشة لتصبح خطرًا إضافيًا يهدد أرواح الآلاف. أطباء ومواطنون، اشتكوا من أدوية مجهول المصدر، تدخل البلاد عبر الحدود، بعضها قاتل وبعضها يدمّر الأعضاء ببطء، لتتحول هذه السموم إلى تجارة مربحة على حساب صحة الناس. هذا التحقيق يكشف مسارات التهريب، وأخطر أنواع الأدوية المتداولة، وكيف تغلغلت شبكات إجرامية إلى العمق السوداني بلا رادع.
تحقيق – بهاء الدين عيسى
الموت في زجاجة أنسولين
لم يكن “أمير محمد ” (أربعيني)، يسكن أحد أحياء شرق العاصمة الخرطوم، يدري أن جرعة الأنسولين التي ابتاعها من منزل عادي بضاحية شرق النيل ستكون تذكرة عبوره إلى الموت.
قال أحد أقارب أمير: “لم يجد حلاً سوى اللجوء إلى بائع مجهول، أخذ الجرعة على أمل النجاة من سطوة مرض السكري. لكنه سرعان ما دخل في غيبوبة امتدت يومين كاملين، قبل أن يسلم الروح”.
عندما هبّت أسرته تبحث عن تفسير، اكتشفوا الحقيقة الصادمة: عبوات الأنسولين.
مصدر صيدلي آخر نقل لنا حالة مأساوية لرجل سوداني جاء إلى دولة خليجية لتلقي العلاج، بعد أن تلقى جرعتين من العلاج الكيماوي في بورتسودان، بعد أيام قليلة، تدهورت حالته، وبعد المراجعة تبين أن المريض كأنه لم يتلقَ جرعة، وبعدها بساعات توفي .
وقال الطبيب: “عندما فُحص دمه، لم يظهر أي أثر للدواء لم تكن الجرعات خاطئة أو ضعيفة، بل لم تكن موجودة على الإطلاق”.
شهادة من قلب الكارثة
في قلب أمدرمان، وبين صخب الحرب وظلال الانهيار، واصل الدكتور الصيدلاني يوسف أحمد عمله دون انقطاع، منذ اليوم الأول لاندلاع القتال وحتى الآن، وسط ندرة الأدوية وتدهور سلاسل الإمداد، لم تكن مهمته سهلة، لكنه ظل شاهدًا على أزمة دوائية تتفاقم يومًا بعد يوم، وقال: “كنا نرى بأنفسنا المرضى يشترون أدوية فقدت صلاحيتها، وقطرات عيون لا تفعل شيئًا”، ومضى يروي في التفاصيل موضحًا أن الأدوية المهربة بدأت تتدفق منذ بداية الحرب إلى الأسواق قادمة من جمهورية مصر وأطلقوا عليها اسم “الكُروبشن” ربما لأنها تستورد وتباع بطرق فاسدة.
يقول يوسف: “قطرات العين بالذات، نرى فيها فسادًا واضحًا، أحيانًا يأتي بها المرضى بعد استخدامها بلا نتيجة، مع أنهم استخدموا نفس الأنواع قبل الحرب وكانت فعالة جدًا”.
ويضيف: “توقفت المصانع المحلية، ونفد المخزون الاحتياطي خلال أشهر قليلة، ليصبح الاعتماد على السوق غير النظامي هو الخيار الوحيد. ومع غياب الرقابة، انتشرت طرق شحن بدائية، تنقل الدواء في دفارات وسيارات صغيرة دون أي مراعاة لدرجات الحرارة أو شروط الحفظ”.
“كنا نستقبل الأدوية من عطبرة إلى أمدرمان، ونعرف أنها تضررت من الرحلة قبل حتى أن نفتح العبوة”، يقول الدكتور.
ويعتقد الدكتور يوسف أن الأخطر في الدواء المهرب، في نظره، هو ما يأتي عبر جنوب السودان. “الطريق طويل، والرطوبة قاتلة، والنتيجة أدوية بلا فعالية. الأسبرين نفسه تغيّر لونه ورائحته، صار يشبه النشادر”، يوضح يوسف، مشيرًا إلى أن بعض الأدوية القادمة من مصانع هندية رديئة الجودة زادت الطين بلة.
وختم حديثه: “صحة المريض اليوم في خطر، لأن الدواء ذاته صار موضع شك”.
تقرير صادم للأمم المتحدة
وكشف تقرير صادر عن المكتب المعني بالمخدرات والجريمة في الأمم المتحدة، نشر قبل عامين أن الأدوية المغشوشة تتسبب في وفاة نصف مليون شخص في أفريقيا جنوب الصحراء، وفي تفاصيل التقرير أن (267) ألف حالة وفاة سنوبًا مرتبطة بالأدوية المزيفة وفي مقدمتها علاجات الملاريا، وأكثر من(196) ألف حالة وفاة بسبب مضادات حيوية مغشوشة، وأشار التقرير إلى أن معظم وفيات المضادات الحيوية المزيفة من الأطفال، وعن مصادر الأدوية قالت الأمم المتحدة أنها مجهولة المنشأ أو منتهية الصلاحية تهرب عن طريق سواحل غرب أفريقيا وتوزع في دول عديدة من بينها السودان.
الإنسولين المهرب.. سمٌ صامت يهدد حياة المرضى
يُحذر الدكتور الصيدلي صالح الجابري، صاحب صيدلية مرموقة في مدينة كسلا شرقي السودان، من دخول أشرس أعداء مرضى السكري إلى البلاد عبر التهريب، وهو الإنسولين الفاسد الذي لا يُقدّر الناس خطورته إلا حين تقع الكارثة. من بين المخاطر قال الجابري: “مثلًا الإصابة بمرض السكري تستهدف شبكية العين أولًا، ومع الاستخدام المتكرر لإنسولين مغشوش تزداد الأضرار، مما قد يؤدي إلى فقدان البصر، أو حتى الوفاة”.
يشير الجابري إلى أن طرق تهريب هذا الدواء الحيوي ليست مباشرة، بل تمر عبر مسارات برية معقدة، حيث تتسلل شحنات الإنسولين من مصر عبر شبكات منظمة، تستخدم وسائط نقل صغيرة وسريعة، مستغلةً المسارات التقليدية بين عطبرة والحدود المصرية.
قرار رسمي يفتح أبواب التهريب
في شهر أكتوبر2023، أعلنت هيئة الدواء المصرية أن المجلس القومي للأدوية والسموم بالسودان سمح باستيراد المستحضرات الدوائية المصرية المسجلة والمعتمدة من قبل هيئة الدواء دون اشتراطات، وأكد ماجد جورج مُصنع ورئيس المجلس التصديري للأدوية والمستلزمات الطبية أن قرار دخول الأدوية المصرية إلى السودان دون اشتراطات التسجيل فرصة ذهبية، مشددًا على اقتنصها، وأشار تقرير رسمي أن صادرات مصر من الأدوية في 2023، ارتفعت بنسبة 14%.
وأكد عدد ممن تحدثوا إلينا في إطار هذا التحقيق، أن قرار مجلس الصيدلة والسموم السوداني السماح للأدوية المصرية الدخول دون اتباع الاشتراطات فتح باب الفساد والتلاعب على مصراعيه. وقال صيدلي طلب حجب اسمه: “زاد دخول الأدوية التي لا تطابق المواصفات منذ اتفاق المجلس القومي للصيدلة والسموم والمصدرين المصريين”. وأضاف: “أصبح الدواء غير المطابق للمواصفات يدخل عبر المنافذ الرسمية، وساهم كذلك في زيادة الدواء المهرب إلى الأسواق، وتعتبر الكميات الأكبر تدخل السوق عبر الحدود المصرية”.
وتمتد شبكة معقدة من مسارات تهريب الدواء تربط السودان بمصر، تتغير وتتبدل كلما استشعر المهربون خطرًا، لكنها لا تختفي.
وكشف أحد السائقين يعمل في التهريب خريطة غير رسمية لرحلات التهريب، تبدأ من أسوان وتنتهي في ولاية نهر النيل، محملة بالأدوية المدعومة أو الممنوعة.
المسار الأول: يبدأ من أسوان، وجبال الأنصاري مرورًا ببربر ثم العبيدية، ومنها تنساب القوافل نحو عطبرة وتعود أدراجها عكسياً من هناك .
المسار الثاني: يبدأ من ميناء أوسيف وحتى عمق الأراضي المصرية أيضاً يعود عكسياً في ذات الطريق.
المسار الثالث: أسوان، أرقين، دنقلا، الخناق، وهي من أخطر النقاط لوعورتها ومراقبتها الشديدة.
المسار الرابع: يبدأ من أسوان إلى أبو حمد، مروراً بنقاط وعرة حيث تكثر المركبات المعدّلة وتختفي الرقابة.
معاناة السودان الدوائية تتفاقم بسبب تراجع الاستيراد
واستورد السودان خلال الربع الأخير من عام 2019 أدوية بقيمة 367 مليون دولار، بحسب وزارة الصحة، وفي عام 2024 لم يتجاوز حجم الاستيراد 227 مليون كما صرح الأمين العام للمجلس القومي للأدوية والسُّموم د. علي بابكر، غير أن عام 2023 شكّل منعطفًا كارثيًا، إذ لم يتجاوز حجم الاستيراد الرسمي 88 مليون دولار فقط، ما فتح الباب واسعًا أمام السوق الموازية التي ضخت – بحسب المصادر نفسها – ما لا يقل عن 150 مليون دولار من الأدوية المهربة، جلّها دون رقابة صحية أو ضوابط تنظيمية.
تحسّن مستوى الاستيراد الرسمي نسبيًا في عام 2024 ، مغطيًا ما يُقدّر بـ30 إلى 40% من احتياجات السوق. لكن هذا التدفق لم يكن نعمة؛ فقد ترافقت الكميات الهائلة من الأدوية مجهولة المصدر مع نسب عالية من التزوير والغش الدوائي.
في هذا السياق، يقول رئيس شعبة مستوردي الأدوية في السودان، يوسف شكاك، إن الإحصائيات التي حصلنا عليها عن استيراد الدواء “صحيحة” لكنها غير دقيقة، باعتبار أنها لم تتناول الحاجة الكلية للدواء في السودان. وأضاف أن حجم استهلاك الدواء في السودان يصل إلى 600 مليون دولار سنويًا. وكان هناك تصنيع محلي يغطي حوالي 200 صنف دوائي لا يُسمح باستيرادها، لكن هذا التصنيع توقف حاليًا، ويُستورد كل الدواء من الخارج، حيث أغلقت المصانع المحلية أبوابها. وأشار إلى أن استيراد الدواء في العام الجاري حتى النصف الأول من العام 2025 بلغ 180 مليون دولار حتى الآن.
وأضاف أن العجز في الدواء بالسودان لا يُغطى فقط بالأدوية المغشوشة، بل تلعب المنظمات الدولية دورًا في دعم الإمدادات الطبية والتأمين الصحي بشكل كبير.
(40 -60%) من الأدوية المغشوشة في مناطق النزاع، في المناطق التي كانت ميدانًا للنزاع المسلح، في كردفان ودارفور، وسنار وولاية النيل الأزرق والجزيرة، ارتفعت نسب انتشار الأدوية المغشوشة وفقاً للتقارير التي حصلنا عليها خلال ذروة الحرب في أواخر 2023 إلى ما بين 40 و60%، بحسب مصادر صيدلانية متطابقة. أما في الولايات المستقرة نسبيًا، مثل بورتسودان والقضارف، فقد تراوحت النسبة بين 20 و30%، وهي أرقام تبعث على القلق حتى في ظل غياب المواجهات العسكرية المباشرة.
التلاعب بالأدوية جريمة مضاعفة
ويشير إلى أن ظاهرة الدواء المغشوش، حتى في الظروف الطبيعية، تنتشر بدرجة أكبر في القرى والمناطق الريفية، حيث تكون المتابعة أضعف مقارنةً بالمدن الكبرى.
ويؤكد شكاك أن السودان كان من أقل الدول تأثرًا بهذه الظاهرة في السابق، لكن الأمر تغيّر بعد انفصال جنوب السودان، الذي تحوّل إلى أرض خصبة لتجار الأدوية المغشوشة، ومركز رئيسي لتوزيعها إلى الدول الإفريقية المجاورة.
ويضيف أن هذه الأدوية بدأت بالتسلل إلى السودان، خاصة في المناطق القريبة من الحدود مع جنوب السودان، ومع مرور السنوات، ونتيجة لضعف الدولة وتراجع الرقابة، تزايد تدفقها حتى بلغ ذروته مع اندلاع الحرب.
قائمة الأدوية الأكثر تهريبًا
ضمن التقصي حول أزمة تهريب الأدوية وتفشي الغش الدوائي في السودان خلال الفترة من 2023 إلى منتصف 2025، كشفت مصادر طبية موثوقة عن قائمة بالأدوية الأكثر عرضة للتزوير والتهريب، مصنفة بحسب نوعها والمخاطر المرتبطة بها، ما يسلّط الضوء على كارثة صحية تهدد حياة الملايين.
في صدارة القائمة جاءت المضادات الحيوية مثل:
أموكسيسيلين، سيبروفلوكساسين، سيفالكسين، أزيثروميسين، حيث تم ضبط نسخ مزوّرة منها تحمل علامات تجارية شهيرة مثل Pfizer، Cipla، وGlaxoSmithKline. وتكمن خطورة هذه الأدوية في التسبب بمقاومة بكتيرية وفشل العلاجات، ما يؤدي إلى حالات عدوى مستعصية وارتفاع معدلات الوفيات.
كذلك طالت عمليات الغش والتهريب أدوية القلب والضغط مثل:
أملوديبين، كابتوبريل، إنالابريل ميتوبرولول والمقلّدة من شركات كبرى مثل Novartis، Sanofi، وAstraZeneca. وقد ترتّب على ذلك أزمات قلبية مفاجئة، واضطرابات في ضغط الدم، وزيادة خطر الإصابة بالسكتات الدماغية.
أما أدوية السكري، خاصة الأنسولين بأنواعه (الريجولار وطويل المفعول) والميتفورمين، فقد سُجّلت كميات مهربة أو مغشوشة تعود لماركات مثل Novo Nordisk، Eli Lilly، وSanofi، مما أدى إلى فقدان السيطرة على مستوى سكر الدم، وظهور حالات حموضة الدم القاتلة والغيبوبة.
وفي ما يخص أدوية السرطان والربو، فإن السوق السوداني شهد تدفق أدوية كيماوية مجهولة المصدر، إلى جانب بخاخات مزوّرة من نوع Salbutamol، الأمر الذي يهدد بتفاقم الأمراض وعدم استجابة المرضى للعلاج.
حتى أدوية الطوارئ والمسكنات مثل باراسيتامول، إيبوبروفين، ومضادات الهيستامين لم تسلم من الغش، مما أدى إلى حالات تسمم دوائي وآثار جانبية مهددة للحياة. كما شمل التزوير أدوية النساء والولادة، أبرزها أوكسيتوسين، حبوب منع الحمل، ميفيبريستون، وهو ما يُنذر بمضاعفات خطيرة أثناء الولادة، ومخاطر صحية على الأمهات، فضلًا عن حالات الحمل غير المرغوب فيه.
ظلال أزمة جنوب السودان تتمدد
تعاني دولة جنوب السودان أوضاعًا مضطربة منذ استقلاله في عام 2011، أدى هذا الاضطراب إلى ضعف في أداء الدولة وخاصة ما يتعلق بالرقابة الصحية، وبعد اندلاع الحرب في السودان، ألقى الوضع في الجنوب بظلال سالبة على السودان الشمالي، وكشف صيدلي من جنوب السودان فضّل حجب اسمه لدواعٍ أمنية، لا تُدار تجارة الدواء في جوبا وفقًا لأيّة معايير طبية، بل وفق قوانين السوق السوداء، وقال: “تجارة الدواء في جنوب السودان تعنى بالربح أولًا، والموت آخر ما يُحسب له حساب”.
ومضى قائلًا: “عبوات بلا تاريخ إنتاج، بلا صلاحية، بلا أي دليل على وجود المادة الفعالة. تُخزن الأدوية في مخازن عشوائية، يديرها أفراد من جنسيات أجنبية، خصوصًا من إثيوبيا، بعيدًا عن أعين الجهات الرسمية. لا تبريد، لا تعقيم، لا رقابة”، فقط تجارة ملوّثة بالجشع على حد قوله.
وسط هذه الفوضى، ينشط ما يُسمى بـ”تجار الشنطة” السودانيين في شراء كميات من علاجات الملاريا، والمضادات الحيوية، وأدوية الضغط والسكري، ثم يهرّبونها عبر الحدود.
يعبرون إلى مناطق يسيطر عليها الدعم السريع، حيث لا وجود لأي شكل من أشكال الرقابة.
الصيدلي يؤكد أن بعض الأدوية، خاصة أدوية السرطان والأنسولين، تُنقل في ظروف في غاية الغرابة، وتُعرّض لأشعة الشمس والأمطار، وتصل للمرضى بلا أي أثر علاجي.
البعض يتناول العلاج، والمرض لا يزول، لأن ما في العبوة شيء آخر، لا يمت للدواء بصلة.
الكارثة ليست في التهريب وحده، بل في أن تصبح حياة الناس سلعة، يُتاجر بها عديمو الضمير، ويصمت عنها الجميع. آلاف المرضى في السودان يتناولون أدويتهم كل يوم، ظنًا منهم أنهم يتعافون، بينما السم البارد يتسرّب إلى أجسادهم.
ما يجري اليوم هو حرب من نوع آخر. حرب بلا مدافع، لكن نتائجها لا تقل فتكًا. دواء مغشوش، وأجهزة دولة متهالكة، وفساد يتغذى على آلام البسطاء. ما يُباع كعلاج هو الجريمة في أنقى صورها.
مسارات تهريب الدواء بين النيل الأزرق وجنوب السودان
تشكل منطقة الكرمك – بوما، الواقعة بين جنوب النيل الأزرق وأعالي النيل، واحدة من أبرز معابر التهريب غير الرسمية التي تربط السودان بجنوب السودان. وتمتد هذه المسارات عبر مناطق التداخل الحدودي بين باو، وكاكا، ومابان، حيث تتداخل جغرافياً منطقة باو جنوب ولاية النيل الأزرق مع مقاطعة مابان التابعة لولاية أعالي النيل في جنوب السودان. كما يُعتبر معبر بوط في أقصى جنوب النيل الأزرق نقطة عبور مهمة تُستخدم أحياناً لعبور الشحنات إلى ولاية أعالي النيل، خصوصاً إلى المناطق الحدودية مثل كاكا ومابان، مما يبرز أهمية هذه النقاط في حركة تهريب الأدوية بين البلدين.
مسارات تهريب الدواء بين دارفور وجنوب السودان
تشكل المعابر الحدودية بين دارفور وجنوب السودان نقاط اتصال حيوية لمسارات تهريب الأدوية، ومن أبرزها معبر الضعين سماحة (سفاهة) – أبو مطارق في شرق دارفور، والذي يمتد إلى منطقة راجا في جنوب السودان. ويتميز هذا المعبر بوجود قبائل الرزيقات العربية على الجانب السوداني التي تمثل القوة الضاربة بقوات الدعم السريع ، مقابل قبائل الدينكا والنوير على الجانب الجنوبي، ما يجعل من المنطقة نقطة تقاطع حيوية لعمليات التهريب. كذلك يربط معبر برام الفرقة تمساحة في جنوب دارفور منطقة برام بمنطقة راجا في جنوب السودان، في حين يُعد معبر حفرة النحاس على حدود برام نقطة اتصال مهمة تربطها بمنطقة كفي كنجي المتنازع عليها بين البلدين، ما يزيد من تعقيد مراقبة حركة التهريب عبر هذه المعابر.
شبكات تجني الأموال الطائلة
في ذروة الحصار الذي ضرب ولاية النيل الأبيض، إبان سيطرة قوات الدعم السريع على جبل موية، تحوّلت الولاية إلى ملاذ آمن لتجار التهريب، الذين وجدوا في تجارة الوقود بوابة ذهبية لجني الأرباح، قبل أن يمدوا أذرعهم إلى تجارة الأدوية المهربة والمغشوشة.
هؤلاء المهربون، وفقًا لمصادر موثوقة، لا يملكون أي خلفية طبية، ولا ينتمون إلى نقابات الصيادلة أو شركات الأدوية، ما جعل جهلهم بالدواء سببًا مباشرًا في إدخال كميات ضخمة من أدوية فاسدة أودت بصحة عدد من المرضى، وقال مواطنون تحدثوا إلينا أن وفيات الأطفال ارتفعت بشكل لافت خصوصًا المصابين بالالتهابات والحمى، ولم يتعافوا رغم تلقيهم علاج من مخازن أدوية في المنطقة، ولم تخضع الظاهرة للتحليل أو الدراسة بحسب المواطنين.
المصادر تؤكد أن خلف هؤلاء المهربين شبكة متشابكة من المصالح تضم ضباطًا في الجيش، والأمن، والاستخبارات العسكرية، والشرطة، أي الجهات المسيطرة على نقاط العبور.
وتكشف المصادر أن الطريق إلى ولاية النيل الأبيض مفتوح عبر معبري جبل المقنيص بمحلية السلام ومعبر جودة بمحلية الجبلين، إضافة إلى حركة نشطة عبر النيل الأبيض باستخدام القوارب، ما يسهل التهريب على امتداد الحدود مع جنوب السودان.
وتضيف ذات المصادر أن ما تضبطه السلطات لا يمثل سوى قمة جبل الجليد؛ إذ تؤكد مصادر موثوقة أن ما يتم ضبطه لا يتجاوز 10% من حجم الأدوية المهربة فعليًا، والتي تُنقل عبر بكاسي ودفارات إلى الولاية، قبل أن تُهرّب لاحقًا إلى ولاية الشمالية بكميات مقلقة. الأخطر أن بعض هذه الأدوية تستخدم كمخدرات، تُعرف بين الشباب بـ”الخرشا”، وتعرف صيدلانيا باسم “ترامادول” وتُروّج في الأحياء الطرفية بكوستي، وحتى قرب السينما الأهلية وعمارة شيكان.
مصادر من مجلس الصيدلة والسموم بولاية النيل الأبيض أكدت تسرب أدوية هندية مغشوشة إلى الأسواق المحلية، تسببت بمضاعفات صحية خطيرة للمرضى، خاصة مرضى الكلى.
وتضيف المصادر نفسها أنه مع استرداد الجيش لجبل موية ومناطق واسعة في النيل الأبيض، بدأت الجهات الرقابية تستعيد دورها، غير أن شبكات التهريب لجأت إلى الأرياف، في محاولة جديدة للهروب من الرقابة واستهداف المجتمعات الريفية الهشة.
وفي مناطق أخرى مثل النيل الأزرق، تجري نفس العمليات ، ولكن هذه المرة بغطاء من جنود مسلحين يقولون إنهم يتبعوا للحركة الشعبية – شمال، جناح مالك عقار، التي تتحكّم في منافذ استراتيجية تُستخدم لتمرير الأدوية الفاسدة دون أن يجرؤ أحد على اعتراضها.
مجلس الأدوية: اتخذنا إجراءات
في سياق التقصي حول أزمة الأدوية المغشوشة والفاسدة خلال الحرب في السودان، أوضح المجلس القومي للأدوية والسموم أنه لم ترد إليه أي شكاوى أو بلاغات موثقة من المواطنين أو فروعه بالولايات بشأن أدوية منتهية الصلاحية أو تالفة تسببت في أضرار صحية، مؤكداً أنه لا يمكنه التعليق في غياب الأدلة.
وأكد المجلس في رد مكتوب لنا أنه فعّل آليات الرقابة في الولايات الآمنة عبر تنفيذ حملات تفتيش دورية ورفع تقارير منتظمة، ما أسهم في تقليل الأدوية غير المسجلة أو غير المطابقة.
كما أشار إلى أن قانون الأدوية والسموم لعام 2009 يمثل إطارًا قانونيًا رادعًا في مواجهة المخالفات، إلى جانب دور قانون حماية المستهلك. ولفت إلى وجود لجنة عليا مختصة برقابة المنافذ تضم جهات رسمية عديدة، تعمل لمنع دخول الأدوية المهربة وغير المسجلة، وتقوم بحملات تفتيش دورية بالتعاون مع فروع المجلس.
وفيما يخص الأحداث التي صاحبت الحرب، أشار المجلس إلى تعرّض عدد من الصيدليات وشركات ومصانع الأدوية للنهب، وتم توجيه المؤسسات الصيدلانية بفتح بلاغات رسمية ومتابعة الأدوية المنهوبة. وأكد المجلس كذلك اتخاذ إجراءات قانونية بحق عدد من المؤسسات التي ضُبطت بها أدوية غير مسجلة، مشيرًا إلى أن المخالفات تراجعت بفضل تحسّن الوفرة الدوائية وتفعيل الدور الرقابي.
واختتم المجلس بالتشديد على أهمية رفع الوعي بالاستخدام الآمن للأدوية، والحصول عليها من مصادر مرخصة لضمان سلامة المواطنين.
رد منظمة الصحة العالمية: لا بلاغات حتى الآن
في إطار تقصينا بشأن انتشار الأدوية المغشوشة والتالفة في السودان خلال فترة الحرب، تواصلنا مع منظمة الصحة العالمية في الرابع من يوليو 2025 التي أفادت في رد مكتوب في الرابع من أغسطس بأنها لم تتلقَّ أي بلاغات رسمية تتعلق بوجود منتجات طبية دون المستوى المطلوب أو مزيفة في السودان.
وأكدت المنظمة أن ضمان توفر أدوية ولقاحات وأجهزة طبية آمنة وفعالة يشكّل جزءاً جوهرياً من استراتيجيتها العالمية، لا سيما في الدول التي تمر بأوضاع طارئة مثل السودان. وأوضحت أن الأدوية المنتهية الصلاحية تُعد ضمن فئة المنتجات الطبية دون المستوى المطلوب، التي غالباً ما تكون نتيجة سوء ممارسات التصنيع أو غياب الرقابة الفعالة.
وأشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن هذه المنتجات تشكل تهديداً مباشراً وخطيراً على الصحة، بينما امتنعت منظمة “أطباء بلا حدود” عن الإدلاء بأي تصريحات عبر مكتبها في السودان، رغم محاولاتنا المتكررة للحصول على توضيح رسمي بشأن موقفها من ملف الدواء المغشوش والانتهاكات الصحية التي تتم تحت غطاء العمل الإنساني.
فوضى الحرب وغياب الرقابة
كل هذه السموم وجدت طريقها إلى البلاد في وقت انهارت فيه الرقابة على الأسواق بفعل الحرب، وترك المرضى وحدهم يواجهون وحشًا آخر غير الصراع المسلح، يتمثل في أدوية قاتلة تدخل بلا تفتيش وبلا ترخيص، فتحولت حياة الآلاف إلى رهينة تجار لا يبالون بحياة البشر بقدر ما يهمهم الربح السريع.