استراحة محارب (٢)

كتاب كمال الجزولي «عتود الدولة: ثوابت الدين أم متحركات التدين: من صحيفة  (دستور) المدينة المنورة إلى دستور سودان  التأسيس

د. أحمد التيجاني سيد أحمد 

المقدمة

في الجزء الأول من هذا المقال، قدّمنا قراءة تحليلية لكتاب كمال الجزولي «عتود الدولة: ثوابت الدين أم متحركات التدين؟»، وبيّنا كيف شكّل نصًا تأسيسيًا في نقد الإسلام السياسي، والدعوة إلى دولة مدنية تقوم على العدل والتعددية. في هذا الجزء الثاني نواصل القراءة في صفحات (٦٣–٧٦) من الكتاب، حيث تناول الجزولي تجربة فريدة في تاريخ الإسلام المبكر: صحيفة (دستور) المدينة المنورة الذي وضعه الرسول ﷺ ليكون عقدًا اجتماعيًا جامعًا لكل مكونات المدينة من مسلمين ويهود وغيرهم.

صحيفة (دستور) المدينة المنورة: عقد اجتماعي جامع

حين هاجر الرسول ﷺ إلى المدينة، لم يطرح مشروعًا لدولة دينية مغلقة، وإنما وضع صحيفة المدينة، وهي وثيقة مدنية جمعت المسلمين من المهاجرين والأنصار، وربطتهم باليهود وغيرهم من سكان المدينة في عقد واحد. بهذا، توحدت أمة الدين وأمة السياسة دون إقصاء أو احتكار للحق، بل عبر عقد اجتماعي واضح للعيش المشترك.

لا سند للإسلام السياسي

لم يكن في الإسلام المبكر أي سند لفكرة دولة الإسلام السياسي كما صاغتها الحركات المعاصرة. فالرسول ﷺ أسس لدولة تقوم على العدل والمشاركة، لا على احتكار النصوص لمصلحة جماعة أو حزب. حتى الخلفاء الراشدون، مثل عمر بن الخطاب، مارسوا المحاسبة وحثوا أنفسهم على الاعتزال إذا أخفقوا، ليؤكدوا أن الحكم تكليف لا تشريف.

التعدد والتعايش بين الأعراق والأديان

من أبرز ما تكشفه صحيفة المدينة أنها اعترفت بتعدد الأديان والأعراق والقبائل، وجعلت من التعايش أمرًا ربانيًا مطبقًا على الأرض. اليهود والمشركون كانوا جزءًا من العقد الاجتماعي، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. هذا يقطع الطريق على أي محاولة لفرض تصور أحادي باسم الدين، ويكشف زيف الخطاب الذي يزعم أن الإسلام لا يعرف التعدد.

المحاسبة والاعتزال

الخلافة في صدر الإسلام لم تكن سلطة مقدسة. عمر بن الخطاب، مثلًا، كان يقول: «لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها: لِمَ لمْ تمهّد لها الطريق؟». وكان يعلن أنه سيعتزل إن لم يؤدِ الأمانة. هذه الروح تجعل من الحكم مسؤولية قابلة للمساءلة الشعبية، لا سلطة فوق النقد.

من صحيفة المدينة إلى ميثاق التأسيس

وأنا أطالع هذه الصفحات، غمرتني الدموع مرات ومرات. تذكرت أيامنا الأولى في اجتماعات تحالف التأسيس، حين آلينا على أنفسنا أن نخلق تحالفًا يناسب كل أطياف الطيف السوداني، من النوبيين في وادي حلفا إلى فاشر السلطان، ومن الكرمك إلى البحر الأحمر. كان الدرس النبوي ماثلًا: لا بناء لدولة إلا على قاعدة جامعة تُشرّك الجميع. وكأن صحيفة المدينة تُنادي اليوم بميلاد ميثاق التأسيس للسودان الجديد.

التنوع السوداني وصناعة دستور التأسيس

إذا كانت صحيفة المدينة قد اعترفت بتعدد الأديان والأعراق في مجتمع صغير ناشئ، فإن السودان المعاصر يواجه تحديًا أكبر، حيث يتداخل فيه النوبي مع الدارفوري، والشرقي مع الغربي، والمسيحي مع المسلم، والعربي مع الإفريقي. لقد كان حضور هذا التنوع في اجتماعات تحالف التأسيس أمرًا حاسمًا: من النساء والشباب، إلى ممثلي الأقاليم والمهجر، إلى النقابات والقطاعات المهنية. هكذا صيغ دستور التأسيس ليكون وثيقة تعاقدية جامعة، لا مجرد نص نخبوي.

ما جرى في السودان عند الاستقلال يذكرنا بالمفارقة مع المدينة المنورة في صدر الإسلام. فـصحيفة المدينة المنورة، أو دستور الرسول ﷺ، ميّزت بوضوح بين الدين والسياسة، وأقرت أن الحكم الدنيوي هو عقد اجتماعي، لا تفويضًا سماويًا. لقد شملت الوثيقة كل التباينات الاجتماعية والدينية القائمة آنذاك: العرب واليهود، المسلمين وغير المسلمين، المهاجرين والأنصار. الجميع كانوا جزءًا من العقد دون إقصاء أو احتكار.

بينما في السودان، ورغم هذا التنوع الأوسع — قبائل، لغات، أديان، أعراق — فقد ضيّقت النخب الحاكمة بعد الاستقلال مفهوم الدولة، وركّزت السلطة في المركز بيد ثلاث قبائل شمالية، متجاهلة بقية الفسيفساء الوطنية. وهكذا تحوّل التنوع من مصدر قوة إلى عامل صراع وتمزق.

الحكم الدنيوي ليس حكم السماء

كما شدد كمال الجزولي في «عتود الدولة»، فإن الحكم الدنيوي يظل عملًا بشريًا، لا قداسة فيه ولا عصمة. الدولة تُبنى على المحاسبة والعقد الاجتماعي، لا على ادعاء التفويض الإلهي. بهذا الفهم، يصبح السودان الجديد مطالبًا بأن يضع الدولة في موقعها الصحيح: جهازًا دنيويًا خادمًا للمجتمع، لا سلطةً مقدسة متعالية على الشعب.

الخاتمة

إن الربط بين صحيفة المدينة ودستور التأسيس ليس مجرد مقارنة تاريخية، بل درس عملي: أن الدولة لا تقوم إلا على عقد جامع يضمن التعدد ويكفل العدالة. ولو كان كمال الجزولي بيننا اليوم، لوجد في هذا الربط بين الماضي والحاضر ما يؤكد أن «عتود الدولة» لم يكن نصًا نظريًا، بل رؤية متجذرة في التاريخ وقابلة للتطبيق في السودان.

 

د. أحمد التيجاني سيد أحمد

*هذا المقال ثمرة شراكة واعية بين الذكاء الإنساني والذكاء الاصطناعي

 

Exit mobile version