دفء وكرم وروح لا يراها العالم..السودان بعيون نارين فاندوغلو مستشارة العمليات في منظمة أطباء بلا حدود

نارين فاندوغلو – مستشارة العمليات في منظمة أطباء بلا حدود

منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل/نيسان 2023، ينزف البلد في صمتٍ ثقيل. أكثر من 12 مليون شخص نزحوا عن ديارهم، فيما يواجه ما يزيد على 8 ملايين خطر الجوع الحاد، وتوقفت 80% من المرافق الصحية في مناطق الصراع عن العمل. ورغم ضخامة المأساة، ما زالت الأزمة السودانية تُعد من أخطر كوارث العالم وأكثرها إهمالًا، كأن السودان خُط على هامش خريطة الأزمات الدولية.

في عام 2025، زرتُ السودان مرتين بصفتي . كانت الزيارة الأولى إلى غرب دارفور، حيث أُطلق مشروع حول سوء التغذية وصحة الأطفال في فورا برنقة، ثم عدت لاحقًا إلى بورتسودان والخرطوم لأعايش عن قرب تحديات الوصول وجهود فرق المنظمة.

أرى نفسي في عيونهم

أثناء تنقلي بين وجوه النازحين شبابًا ونساء ورجالا كنتُ أجد انعكاساً لذاتي في أعينهم. فأنا قبل أن أكون عاملة إنسانية، إنسانة. انطلقت رحلتي مع أطباء بلا حدود عام 2016، ولم يطل الوقت حتى اكتشفت، بينما أعمل في استجابات الهجرة، أنني كنتُ أنا نفسي طفلة مهاجرة. هذا الوعي ظل حاضراً في داخلي، وأثر بعمق على مساري المهني.

على مدى سنوات عملي، عايشت ليالي مثقلة بالصور والأصوات المؤلمة، ولحظات خنقتني فيها قسوة المشهد حتى تجمدت مشاعري. ولأتمكن من الاستمرار، احتجت إلى متنفس. هكذا عدتُ إلى هواية الطفولة: الرسم بالألوان المائية. منذ عام 2017 بدأت أترجم مشاهد الميدان إلى لوحات، أفرغ فيها ثقل التجربة، لأعود في اليوم التالي أكثر قدرة على العطاء.

على مدى سنوات عملي، عايشت ليالي مثقلة بالصور والأصوات المؤلمة، ولحظات خنقتني فيها قسوة المشهد حتى تجمدت مشاعري. ولأتمكن من الاستمرار، احتجت إلى متنفس. هكذا عدتُ إلى هواية الطفولة: الرسم بالألوان المائية. منذ عام 2017 بدأت أترجم مشاهد الميدان إلى لوحات، أفرغ فيها ثقل التجربة، لأعود في اليوم التالي أكثر قدرة على العطاء.

الهمتني شجاعة السودانيات

في فبراير زرتُ الجنينة وفورا برنقة غرب دارفور، حيث بدأ مشروع يركز على سوء التغذية وصحة الأطفال. وفي مايو، سافرتُ عبر نيروبي إلى بورتسودان ومنها برًا إلى الخرطوم في رحلة شاقة استغرقت يومين. كان مجرد الوصول إنجازًا، بعدما انتظر زملائي أسابيع للحصول على تأشيرات وأذونات.

منذ 2019، ظل السودان حاضرًا في ذهني، خاصة النساء اللواتي تقدمن الصفوف في المظاهرات. ألهمتني شجاعتهن، وجعلتني أشعر بانتماء خفي إليهن. واليوم، بعد مفاوضات مضنية، تعمل فرقنا في السودان بأكثر من 1400 موظف محلي ودولي لدعم المرافق الصحية والشركاء الوطنيين. رؤية هذا التطور، رغم العوائق، منحتني أملًا.

هذا العام لم يكن الرسم مجرد وسيلة شخصية للراحة، بل أصبح وسيلة للتوثيق. ففي حين يرى كثيرون السودان فقط من خلال الحرب، أردت أن أُظهر تفاصيل أخرى: الأسواق، المقاهي، الطعام، والطرق. أردت أن أقول إن السودان ليس مجرد صراع، بل مكان للحياة والصمود.

رسمت الأهرامات السودانية ففوجئ أصدقائي بوجودها، وفتح ذلك نقاشات عن تاريخ وثقافة مجهولة. في الجنينة، وثّقت جرة ماء يضعها الأهالي للمارة، رمزاً لسخاء بسيط يستمر حتى في زمن الحرب. ومن دارفور أتذكر رجلًا يجر عربة يعلوها وقود في قيظ خانق؛ مشهد ظل يقارن داخلي بين رفاهية جنيف وبؤس النضال اليومي هناك.

وعلى الطريق بين بورتسودان والخرطوم، التقيت امرأة تُعد القهوة أمام منزل شبه مدمر، وأطفالها من حولها. سخرت من طلبي قهوة بلا سكر، لكنها جسدت في لحظة قوة المرأة السودانية وحضورها. رسمتها لاحقًا كذكرى، أكثر من كونها صورة.

ماذا لو كنت سودانية؟

هذا السؤال يرافقني أينما ذهبت: لو وُلدت هنا، كيف كانت ستكون حياتي؟ نحن لا نختار نقطة البداية: الوطن، العائلة، الجواز. ومع ذلك، هذه البداية تحدد مصائرنا. حين أنظر إلى اللاجئين أو النازحين، أرى احتمالية أن أكون مكانهم. لذلك لا أعتبر عملي علاقة بين مساعد ومستفيد، بل فعل تضامن إنساني.

ومع أنني أتنقل بين عالمين جنيف المريحة والميدان القاسي يظل داخلي مثقلًا بالتناقض. زملائي السودانيون يعيشون في المخيمات أو المناطق النائية، فيما أعود أنا إلى حياة مستقرة. هذا يجعلني أتساءل دوما: هل أقوم بما يكفي؟

لذلك، حين أخبر عائلتي وأصدقائي أنني عائدة إلى السودان، أريدهم أن يفهموا أن وراء الحرب حياة ودفء وروح دعابة. أريد أن أنقل لهم بلدا يُنسى بسهولة لكنه حيّ في تفاصيله.

ما نواجهه في السودان ليس مجرد أزمة غذاء أو دواء، بل أزمة تعاطف. فالتعاطف يبدأ برؤية الآخر وعدم إدارة الوجه. إذا منح الناس لحظة للتفكير في معاناة السودانيين وتخيّلوا أنفسهم مكانهم، فإن ذلك فعل تضامن عميق.

قد لا توقف رسوماتي الحرب، لكنها ترفض أن تدعنا نغض الطرف. يمكننا أن نكون شهودا، وأن نشارك العالم حقيقة أن السودان ليس مجرد مأساة منسية، بل بلد يستحق أن يُرى ويُحكى عنه.

Exit mobile version