بين وطنٍ يتفتت وأغنياتٍ لا تموت .. يظل الأمل آخر ما يتمسك به السودانيون

الأمين عبد المحمود – جلوب آند ميل
وُلدتُ في الخرطوم، وقضيتُ طفولتي هناك، وكانت الموسيقى أول ما عرّفني على موطني. فهمتُ ذلك من خلال كلمات أمثال عبد الكريم الكابلي ومحمد وردي وحنان النيل، الذين سعوا جاهدين لتجسيد جمال السودان وشعبه؛ ومن خلال الأصوات الرخيمة التي تُشيد بتمجيد نهر النيل على ضفاف الخرطوم ، وزهور الكركديه المتفتحة، أو رقة أهلي. كانت هذه هي اللبنات الأساسية المفعمة بالأمل لفهمي للسودان.
سامحوني إذًا إن وجدتُ نفسي تائهًا ومُشتتًا، عاجزًا عن التوفيق بين الجمال الهائل الذي تُجسّده تلك الأغاني والواقع المُريع الذي يحدث في السودان الآن. كلُّ من أتحدث إليه من الجالية السودانية في الخارج يواجه نفس المصير: جميعنا نسعى جاهدين لإيجاد الأمل، ونفشل جميعًا في الحفاظ على ما تبقى منه. جميعنا نحاول أن نجد أنفسنا في تلك الأغاني مجددًا.
تقترب البلاد من تجاوز عامها الثاني والنصف منذ بدء الصراع الحالي. وتعود جذور هذا الصراع إلى الأمل المخيب للآمال: فبعد ثورة استثنائية قادها شباب السودان، أُطيح بعمر البشير، الديكتاتور الذي حكم البلاد لعقود. بدا الأمر وكأنه الزفير الذي كانت البلاد تنتظره.
لكن في أعقاب إقالته من منصبه، انهار تحالف هش بين القوات المسلحة السودانية والميليشيا المعروفة باسم قوات الدعم السريع، مما أدى إلى حرب شاملة للسيطرة على السودان بدأت في أبريل/نيسان 2023.
منذ ذلك الحين، أصبح السودان موقعًا لما يُعدّ أسوأ أزمة إنسانية في العالم حاليًا. الإحصائيات قاتمة: فقد نزح أكثر من 12 مليون شخص ، من بينهم أكثر من أربعة ملايين طفل، مما يجعلها أسرع أزمة نزوح نموًا في جميع النزاعات الحالية. وقُتل أكثر من 150 ألف شخص . وتشهد منطقة غرب دارفور مجاعة، وفي وقت سابق من هذا العام، أعلنت الولايات المتحدة أن قوات الدعم السريع ترتكب إبادة جماعية . وقد فرّ ما يقرب من أربعة ملايين سوداني إلى الدول المجاورة. فر معظم أفراد عائلتي إلى مصر، بينما لجأ آخرون إلى تشاد أو جمهورية إفريقيا الوسطى، وحتى إلى دول بعيدة مثل المملكة العربية السعودية أو الإمارات العربية المتحدة.
ورغم الدماء، ظهرت بين الحين والآخر ومضات قصيرة من الأمل. فبعد أن انسحبت القوات الحكومية إلى بورتسودان عامين كاملين، استعادت في مايو/أيار السيطرة على الخرطوم وطردت الدعم السريع من العاصمة. رأى النازحون في ذلك بارقة بداية جديدة، وامتلأت صفحات التواصل بصور قطارات وحافلات تعج بالعائدين، مستبشرين بعودة الحياة. كنت أتابع تلك الصور بشيء من الغيرة والحنين، متمنياً أن أشارك في إعادة بناء وطني. كثير من السودانيين في الخارج راودتهم الأمنية نفسها: خطوة أولى في طريق مجهول، لكنه مفعم بالتطلعات.
غير أن الحلم سرعان ما تبدّد. تقارير التفاؤل حلت محلها صور الصدمة. الخرطوم التي عادوا إليها لم تكن سوى مدينة منكوبة: أحياء كاملة جرفتها المدفعية، مولدات الكهرباء والبنية التحتية تعرّضت للتخريب المتعمد، حتى الأسلاك النحاسية انتُزعت من جدران البيوت. الحلم بالعودة اصطدم بمشهد الجثث في الشوارع، وبغياب أي مؤسسات قادرة على تأمين أساسيات الحياة، فضلاً عن إعادة إعمار العاصمة.
اليوم، صار الأمل المتقطع هو الحالة الدائمة للسودانيين المترقبين من بعيد. الأخبار التي كانت تبشّر بهزائم متتالية للدعم السريع استُبدلت بأنباء مرعبة عن حصار مدينة الفاشر، كبرى مدن دارفور، التي يسكنها ربع مليون إنسان. لأكثر من 500 يوم لم تصلها مساعدات أو غذاء، وأهلها يعيشون تحت قصف دائم. تتحدث التقارير عن سكان يقتاتون علف الإبل، ومساجد تُقصف بلا توقف. أما الصحفيون في المنطقة، فتقول لجنة حماية الصحفيين إنهم يتعرضون للملاحقة والاغتصاب والتجويع. لا يلوح في الأفق ما ينهي هذه المأساة.
ومع ذلك، نادراً ما يحظى السودان بمكان في نشرات الأخبار العالمية. الصراع يتسع، والصمت يزداد. قد يبدو الأمر أكبر من أن يُواجه، لكن هناك أسئلة لا مفر من طرحها: ما الذي تفعله مركبات مدرعة كندية الصنع في السودان؟ ولماذا تواصل كندا والولايات المتحدة توطيد علاقاتهما مع الإمارات، وهي الدولة التي تعلن سعيها للسلام بينما تمد قوات الدعم السريع بالسلاح والإمدادات الطبية؟
مستقبل السودان غارق في الضباب واليأس. ومع ذلك – وأرجو أن تُسامحوني – ما زلت أتشبث بالبحث عن الأمل. فما يزال هناك ومضات صغيرة. قبل اندلاع الحرب بشهرين فقط، وصلتني دعوة من مدرسة دولية في الخرطوم بعد صدور مذكّراتي ابن مكان آخر، التي تناولت رحلتي من السودان إلى كندا. طلبوا مني أن أقضي أسبوعاً مع الطلاب في ورش للكتابة. بدأتُ أتصور عودتي الأولى بعد غياب 15 عاماً، أحلم بمشاركة المكان الذي شكّلني مع طفلي، الذي لم يعرف السودان إلا من القصص والأغاني. كنت أخطط للعودة خريف 2023.
لكن بعد يومين من اندلاع القتال، كتب لي مدير المدرسة يطلب مني إبقاء الموعد على التقويم، متفائلاً باستقرار قريب. كان ذلك الأمل يلوح رغم أصوات الدبابات والنيران. إلا أن الحلم لم يدم طويلاً، إذ أغلقت المدرسة أبوابها بعد شهر واحد من بدء الحرب، إلى أجل غير مسمى.
ثم جاء خبر آخر أيقظ شعوراً مشابهاً. الفنان السوداني الكندي مصطفى قرر إقامة حفل في بورتسودان، مستعرضاً ألبومه المدهش دنيا. كان قراراً جريئاً، أن يعلن عن حفل موسيقي وسط الفوضى، وأن يخوض معركة تنظيمه فيما يبدو أن كل شيء قد انهار. لم يُقم الحفل كما كان مقرراً، لكن مجرد الفكرة، مجرد الحلم، ظلّ سنداً لي.
الموسيقى والأمل… هذا ما يتشبث به السودانيون في أعماقهم. تاريخنا ليس سجلاً لوعود تحققت، بل سلسلة متواصلة من الأحلام التي تدفعنا، لمجرد الحلم ذاته، إلى السعي من أجل مستقبل أفضل. كثيراً ما انقطع الأمل أكثر مما تحقق، وربما لم تكن الفظائع يوماً بهذا الحجم. ومع ذلك، ننتظر دائماً الفرصة التالية: ورشة عمل مع الطلاب، حفل مع الأصدقاء، لمحة من النيل، زهرة كركديه تتفتح، أو أغنية تُعيد إلينا إحساسنا بالصدق.

====
الأمين عبد المحمود هو مقدم برنامج كوموشن اليومي حول الفنون والترفيه والثقافة الشعبية على قناة CBC. وهو كاتب ثقافي حائز على جوائز، نشر مقالات في نيويورك تايمز وبازفيد نيوز وغلوب آند ميل. ألّف كتاب ابن مكان آخر الذي تصدّر قوائم الأكثر مبيعاً، واختير ضمن قائمة غلوب 100. أما كتابه الثاني، فلا تسألوه عنه بعد.

Exit mobile version