بعد عقدين من الانتظار، وفي لحظة مشبعة بوجع الذاكرة ودموع الأمهات، نطقت العدالة بكلمتها. المحكمة الجنائية الدولية أدانت علي عبد الرحمن المعروف بـ(كوشيب) في 27 تهمة من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت في دارفور، حيث احترقت القرى، وتيتّم الأطفال، وتكسّرت أرواح الأبرياء تحت صمت العالم الطويل.
هذه الإدانة ليست مجرد حدث قانوني، بل صفحة أخلاقية في دفتر الإنسانية. إنها صرخة متأخرة ولكنها عادلة في وجه كل من ظن أن الإفلات من العقاب قدرٌ لمن يملك القوة والسلاح. اليوم تثبت العدالة أنها قد تتأخر، لكنها لا تموت، وأنّ حقوق الضحايا ليست رمادًا تذروه الرياح، بل جمرة تبقى تحت التراب حتى تجد طريقها إلى الضوء.
لكن الحقيقة الأعمق هي أن إدانة كوشيب هي إدانة كاملة لنظام الإنقاذ برمّته، من أكبر مسؤول فيه إلى أدنى تابع. فذلك النظام هو من أدار آلة القتل، وغذّى الكراهية، وسلّح الجنجويد، وجعل من الدم وسيلة للبقاء في السلطة. إنّ هذه الإدانة لا تُدين فردًا بعينه، بل تدين عقلية الاستبداد التي لبست عباءة الدين لتُخفي جريمتها. وهي في جوهرها أيضًا إدانة للحركة الإسلاموية التي تتشدّق بالدين وهي تمتهن قيمه، ترفع الشعارات عن العدالة وهي تحرق القرى، تتحدث عن الأخوّة وهي تزرع البغضاء، وتدّعي الدفاع عن الأمة وهي تمزّق نسيجها.
إنصاف الضحايا لا يتحقق فقط بالحكم على الجناة، بل بالاعتراف بآلامهم وبردّ الكرامة إلى وجوههم التي غيّبها الخوف والنسيان. فهؤلاء الذين قُتلوا وهُجّروا وعُذّبوا لم يكونوا أرقامًا في تقارير الأمم المتحدة، بل كانوا أحلامًا بشرية بسيطة: طفل كان يريد أن يتعلّم، وامرأة كانت تحلم بماءٍ آمن، ورجل كان يريد أن يزرع أرضه بسلام.
اليوم، تُعيد العدالة لهم بعض حقهم، وتوجّه رسالة إلى العالم مفادها أن دارفور لم تُنسَ، وأن صرخة الضحية يمكن أن تُسمع ولو بعد عشرين عامًا. إنّ الإدانة التاريخية لكوشيب تفتح الباب لمرحلة جديدة، مرحلة مواجهة الذات السودانية مع ماضيها المؤلم، والاعتراف بأن بناء وطنٍ جديد لا يكون إلا على أساس الحقيقة والمحاسبة والرحمة.
لقد انتصرت العدالة، ولو جزئيًا، لكن الطريق لا يزال طويلاً. فالإنصاف الحقيقي أن تتحول هذه اللحظة إلى درس وضميرٍ وذاكرةٍ وطنية، حتى لا تتكرر المأساة، وحتى لا يكون هناك كوشيبٌ آخر، ولا ضحايا بلا أسماء.
العدالة لا تنسى، والضحايا لا يصمتون إلى الأبد، والأنظمة التي تلوّث الدين بالدم مصيرها إلى المحاكمة مهما طال الزمن.