أفق جديد
في سابقة تاريخية طال انتظارها، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، أمس الاثنين، حكماً بإدانة علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف باسم علي كوشيب، القائد الميداني السابق لميليشيا الجنجويد، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور غربي السودان، خلال النزاع الذي اندلع مطلع الألفية الجديدة.
يمثل هذا الحكم أول إدانة من نوعها تطال أحد أبرز قادة المليشيات المتهمة بارتكاب فظائع ضد المدنيين في دارفور، ويُنظر إليه على نطاق واسع كاختبار حاسم لمدى قدرة المحكمة على تحقيق العدالة في نزاعٍ ما تزال جراحه مفتوحة بعد أكثر من عقدين.
31 تهمة ووقائع مروّعة
جاء الحكم بعد محاكمة استمرت أكثر من عامين، استمعت خلالها الدائرة الابتدائية الأولى لشهادات عشرات الناجين، إلى جانب وثائق وصور وتقارير ميدانية قدمها الادعاء العام.
وشملت لائحة الاتهام 31 تهمة تتصل بعمليات قتل واغتصاب وتهجير قسري ونهب وتدمير قرى بأكملها، ارتكبت بين أغسطس/آب 2003 وأبريل/نيسان 2004 في مناطق وادي صالح ومكجر وبنديزي وغيرها من مناطق وسط وغرب دارفور.
وقالت القاضية جوانا كورنر، رئيسة الدائرة، لدى تلاوة الحكم في مقر المحكمة بلاهاي:
“المحكمة مقتنعة بما لا يدع مجالًا للشك بأن المتهم مذنب في الجرائم المنسوبة إليه، التي ارتُكبت على نطاق واسع وبطريقة ممنهجة ضد المدنيين العزّل”.
وأشارت القاضية إلى أن الأدلة أثبتت أن كوشيب “لم يكن يكتفي بإصدار الأوامر، بل شارك شخصيًا في الضرب والتعذيب والإعدامات الميدانية”.
وقد روت المحكمة تفاصيل مروّعة عن إحدى الوقائع، حين أمر كوشيب عناصره بتحميل نحو 50 مدنيًا على شاحنات، وضربهم بالفؤوس، ثم إطلاق النار عليهم بعد أن أجبرهم على الاستلقاء أرضًا.
حضر علي كوشيب الجلسة مرتديًا بدلة زرقاء وربطة عنق قرمزية، وظلّ متماسكاً طوال تلاوة الحكم دون أن يُظهر أي انفعال، مكتفياً بتدوين ملاحظات من حين إلى آخر.
وكان المتهم، البالغ من العمر نحو 75 عامًا، قد نفى أن يكون هو الشخص الذي تبحث عنه المحكمة، إذ قال في جلسة سابقة: “لست علي كوشيب، ولا أعرف هذا الشخص. لم أرتكب ما يُتهم به”. غير أن القضاة رفضوا هذا الدفاع، مؤكدين تطابق الأدلة والشهادات مع هوية المتهم، وأنه بالفعل القائد الميداني الذي أشرف على عمليات المليشيا في مناطق دارفور الغربية.
قائد الجنجويد وذراع الحكومة في دارفور
يُعد كوشيب أحد أبرز الوجوه التي ارتبطت بالصراع في دارفور منذ بدايته. ففي ذروة الحرب، كان يشغل موقعًا مزدوجًا كحلقة وصل بين الحكومة المركزية في الخرطوم وميليشيا الجنجويد التي اعتمدت عليها الدولة في مواجهة تمرد حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان.
ولد كوشيب في دارفور أواخر خمسينيات القرن الماضي، وبرز اسمه في مطلع الألفية ضمن قوات الدفاع الشعبي، قبل أن يتولى قيادة عمليات واسعة النطاق ضد القرى التي اتُّهم سكانها بدعم المتمردين.
وقد لُقب داخل المليشيا بـ”عقيد العقداء”، نظرا إلى نفوذه الواسع وهيبته وسط مقاتليه.
اتهمته منظمات حقوقية بالمشاركة في قتل مئات المدنيين وحرق قرى بأكملها، وارتكاب انتهاكات طالت النساء والأطفال والمسنين.
وفي عام 2007، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمر توقيف بحقه إلى جانب عدد من كبار المسؤولين في نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، لكن الخرطوم رفضت تسليمهم.
وبعد سقوط نظام البشير في 2019 وتشكيل حكومة انتقالية أعلنت نيتها التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، فر كوشيب إلى جمهورية أفريقيا الوسطى في فبراير/شباط 2020، قبل أن يُعلن عن تسليمه نفسه طوعًا بعد بضعة أشهر.
وقال في حينها إنه “اختار تسليم نفسه خوفًا من تصفيته داخل السودان”.
نُقل بعدها إلى لاهاي حيث بدأت جلسات محاكمته في يونيو/حزيران 2021، واستمرت المرافعات لأكثر من عامين.
ومثلت خطوة التسليم تحولَا لافتَا في مسار العدالة الدولية، إذ كانت أول مرة يمثل فيها متهم سوداني أمام المحكمة منذ تأسيسها في 2002.
حكم يفتح جراح دارفور من جديد
بالنسبة لكثيرين من ضحايا الحرب في دارفور، يمثل هذا الحكم بارقة أمل مؤجلة في مسار العدالة الذي تعثر طويلاً.
فقد قُتل أكثر من 300 ألف شخص، ونزح نحو مليوني مدني خلال ذروة الصراع بين عامي 2003 و2005، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
ويقول مراقبون إن إدانة كوشيب هي خطوة مهمة، لكنها لا تمثل نهاية الطريق، إذ لا يزال كبار المسؤولين وعلى رأسهم عمر البشير ووزيرا دفاعه وداخليته السابقان طلقاء حتى اليوم.
وأكد المدعي العام للمحكمة، كريم خان، في بيانه الختامي، أن “هذه المحاكمة ليست سوى بداية في مسار طويل، فالأدلة الجديدة التي نجمعها عن الجرائم الجارية حاليًا في دارفور تُظهر أن الانتهاكات لم تتوقف بعد”.
يتزامن هذا الحكم مع تجدد الصراع في دارفور، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي تضمّ في صفوفها عناصر المليشيات القديمة.
ويحذر مراقبون من أن الإقليم يعيش اليوم ظروفًا مشابهة لتلك التي أدت إلى اندلاع الحرب قبل أكثر من عقدين، في ظل الانفلات الأمني وتكرار الهجمات على القرى والمخيمات.
يرى محللون أن أهمية هذا الحكم تتجاوز حدود دارفور والسودان، إذ تؤكد أن العدالة الدولية لا تسقط بالتقادم، وأن الجرائم الكبرى يمكن أن تجد طريقها إلى المحاسبة مهما طال الزمن.
ورغم أن المحكمة لم تصدر بعد حكم العقوبة النهائي، فقد أوضحت رئيستها أن الجلسات المخصصة لتحديد العقوبة ستُعقد بين 17 و21 نوفمبر/تشرين الثاني، على أن يُعلن القرار في وقت لاحق.
ومع ذلك، يعتبر المراقبون أن مجرد الإدانة تمثل محطة مفصلية في مسار العدالة الدولية، ولحظة فارقة في تاريخ ملاحقة جرائم الحرب والإبادة الجماعية.
فدارفور التي عانت لسنوات من الإفلات من العقاب، وجدت أخيرًا صوتًا في قاعة لاهاي.
لكن بالنسبة لكثير من الناجين، تبقى العدالة ناقصة طالما أن من خططوا وأداروا الحرب لا يزالون خارج القضبان.