المعلمون السودانيون.. سبورة حزن سوداء


الزين عثمان
الطريق إلى المدرسة أجمل من المدرسة، تقول الأستاذة آمال موسى: “لا شيء يضاهي ارتداء الثوب الأبيض ومعه الوجود وسط الطالبات”. ثم تضيف: “ما أقسى الحرمان من هذا الشعور، فقد حُرم المعلمون السودانيون من طلابهم ومدارسهم، في بلد لا يزال الجدل فيه محتدمًا حول من أطلق الطلقة الأولى، في حرب تمضي بخطى حثيثة نحو عامها الثالث”، “طريق الوصول إلى حيث نريد لا يبدو مفروشًا بالورد”، تكمل مديرة المدرسة الثانوية بالعاصمة الخرطوم. وتضيف الأستاذة أنها تشعر بالامتنان لرسالة بعثت بها إحدى طالباتها تهنئها من خلالها بيوم المعلم الذي قالت إنه عبر فيها دون أن تشعر مثل أشياء كثيرة في سودان الحرب.
يُحتفل في الخامس من أكتوبر من كل عام بـ”اليوم العالمي للمعلمين”، وهو تقليد أطلقته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عام 1994. تقليد يأتي تخليدًا لتوقيع توصية اليونسكو ومنظمة العمل الدولية لعام 1966 بشأن أوضاع المدرسين، التي أرست الأسس والمعايير الخاصة بحقوقهم ومسؤولياتهم وظروف عملهم وإعدادهم المهني. كما استُكملت هذه الجهود عام 1997 عبر توصية جديدة تناولت أوضاع هيئات التدريس في التعليم العالي.
ويُعد هذا اليوم مناسبةً للاعتراف بدور المعلمين الجوهري في بناء المجتمعات، وفرصةً لتقدير إسهاماتهم المتواصلة في دعم التنمية والعدالة الاجتماعية، ومراجعة التحديات التي تواجههم في ظل التحولات العالمية المتسارعة في قطاع التعليم.
في يوم المعلمين العالمي يمتد السؤال حول الأوضاع التي يعيشها المعلمون في السودان في ظل الحرب. تكتب أستاذة على صفحتها بالفيسبوك على سبيل الدعابة 5 أكتوبر يوم “المفلس” العالمي، وتكمل: “بعيدًا عن أن نشكر ونقدر رسلوا ليهم إشعارات خضراء”، في إشارة للتحويلات المالية ما بدا وكأنه دعابة يجد ما يسنده في الحقيقة وبالأرقام. هناك أكثر من 350,000 معلم من العاملين في التعليم العام توقفوا عن قبض رواتبهم لأشهر طويلة. بعض الولايات مثل ولاية البحر الأحمر تدفع معظم رواتب المعلمين (حوالي 11 من 12 شهرًا)، أما في ولايات مثل غرب دارفور فلم يتقاضِ المعلمون أي راتب منذ بداية الحرب.
ولا تبدو الأزمة في غياب صرف الرواتب فقط، بل في تآكل قيمتها قبل الحرب، فالمرتبة الأولى من المعلمين كانت تحصل على ما يعادل 498 دولارًا أمريكيًا، لكن الآن نفس الراتب انخفض إلى حوالي 128 دولارًا مع تدهور العملة المحلية والتضخم. فيما انخفض الراتب في المرتبة التاسعة من 128 دولارًا إلى  70 دولارًا. وربما أقل من ذلك في ظل تزايد انهيار العملة الوطنية، وهو الأمر الذي دفع بمعلمي الولاية الشمالية لرفع مذكرة تتعلق بالرواتب تم تجاوزها من قبل حكومة الولاية.
في اليوم العالمي للمعلم تحدث الأرقام عن أكثر من 500,000 معلم اضطروا إلى الفرار من منازلهم أو النزوح داخليًا أو بالخارج. نسبة كبيرة من المعلمين تركوا التعليم، إما للعمل في وظائف أخرى لكسب لقمة العيش، أو خوفًا على سلامتهم ومن غادروا البلاد وتبدو عودتهم بالغة الصعوبة في ظل ما يعايشونه من أوضاع اقتصادية، كما أن الأمر يرتبط بنقطة أخرى مفادها سؤال طرحه أحد المعلمين: “حال رجعنا فهل سنجد المدارس؟”.
حسناً، في سودان الحرب أكثر من 10,400 مدرسة أُغلقت أبوابها. عدد من المدارس تحولت إلى ملاجئ للنازحين، أو إلى ثكنات عسكرية، أو حتى مقابر مؤقتة. وظلت أزمة مغادرة النازحين للمدارس أو البقاء فيها أحد المشكلات الحاضرة بشدة في المناطق التي نزح إليها الناس هرباً من الحرب، حوالي 17‑19 مليون طفل باتوا خارج التعليم الرسمي. بفعل تزايد حالات التسرب المدرسي، خصوصًا في الصفوف الأولى الابتدائية (1‑3) حيث يواجه نحو 3 ملايين تلميذ خطر الرجوع إلى الأمية. الفصول مكتظة جدًا في المخيمات أو مدن الاستقبال الفصل قد يستوعب 150‑180 طالبًا بدلًا من 70‑80.
في يوم المعلم يستدعي السودانيون صورة وسيرة الأستاذ أحمد الخير الذي اغتيل في أحد مراكز الاعتقال بولاية كسلا أثناء الثورة التي أطاحت بنظام عمر البشير، وكانت عملية اغتياله وبشاعتها القشة التي قصمت ظهر بعير سلطة الإنقاذ حيث انتهى الأمر بمنسوبي جهاز الأمن للحكم بالإعدام، لكن الحرب قطعت الطريق على تنفيذه وهو الحدث الذي يفسر غياب العدالة ومحاولات الهروب منها التي قادت للحرب.
استدعاء صورة الخير في يوم المعلم بالنسبة للسودانيين كانت نفسها تعبير بليغ عن الأوضاع التي يعيشها منسوبو المهنة في الوقت الراهن، وكان عليهم تجرع علقم غياب العدالة والتعرض للانتهاكات، حيث يقبع عدد من المعلمين في مراكز الاحتجاز بتهم تتعلق بالتعاون وموالاة أحد طرفي الصراع، وانتهى الأمر ببعضهم موتى بالرصاص المباشر، كما حدث لمعلم كانت تهمته أنه حاول فقط إيصال طلابه لمركز الامتحان، وهو أمر لم يعجب منسوبو الدعم السريع، وتحول التعليم لأداة للفرز القبلي والإثني والمناطقي، وفقد خصائصه كحق عادل، ومتاح للجميع.
بالتزامن مع الاحتفال بيوم المعلم أثار مقطع فيديو متداول للممثل السوداني عبد الله عبد السلام، الشهير بـ”فضيل”، جدلاً واسعاً على منصات التواصل الاجتماعي، بعدما هاجم فيه ثورة ديسمبر المجيدة التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير.
فيديو فضيل خصصه لتوجيه رسالة إلى وزير التربية والتعليم، أبدى فضيل اعتراضه على تضمين المنهج الدراسي للصف الرابع الابتدائي درساً بعنوان “حرية، سلام، وعدالة”، يوثق لشعارات ثورة ديسمبر. ووصف فضيل الثورة بأنها “أسوأ ثورة مرت في تاريخ السودان”.
مطالبة فضيل بتعديل المنهج وما أعقبه من تسريب حول تكوين لجنة حكومية لهذا الغرض يمنح صورة مقربة لكيف يبدو يوم المعلم في الخامس من أكتوبر، وما الذي ينتظر المعلمات والمعلمين في المستقبل هنا لا يكون الفشل مجرد رقم في تقرير، بل جريمة ضد طليعة ينظر إليها بأنها “الشمعة” في بلاد غارقة في ظلام الحرب.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى