د. عصام الدين عباس
مستشار تكنولوجيا المعلومات وتحليل البيانات
الدين – في جوهره – منظومة قيم ومبادئ روحية وأخلاقية تنظم علاقة الإنسان بربّه وبالآخرين وبمجتمعه وبالكون. هو خطاب موجّه إلى جميع البشر دون تمييز، الأديان جميعها لا تُفرّق بين أعراق أو ثقافات أو طبقات اجتماعية أو فئات عمرية أو نوع اجتماعي. فالدين، بمقاصده الكبرى، جاء رحمة للعالمين لا حكرًا على جماعة بعينها ولا امتيازًا لفئة.
مفهوم “رجال الدين”: التسمية والإشكال
يمكننا أن نتحدث عن رجال السياسة، أو رجال العسكرية، أو رجال الأدب، باعتبارها تخصصات إنسانية قابلة للحصر المهني أو العلمي.
لكن حين يُقال “رجال الدين” فكأنّ الدين أصبح حرفة أو اختصاصًا تُمارسه جماعة محددة دون سواها، وهذا يتناقض مع حقيقة الدين كرسالة عامة موجهة إلى الجميع. في السودان نجد أن المجتمعات عادة تقع في خلط غريب بين مصطلحي علماء الدين ورجال الدين ومن هنا تظهر الإشكالية:
فـ”علماء الدين” هم باحثون ومفسرون ودارسون للنصوص الدينية وأدبياتها، شأنهم شأن علماء التاريخ أو الاجتماع والهندسة والطب. نهجهم يقوم على التدبر والبحث العلمي والاستنباط والتحقق والقياسات عملًا بالقاعدة الشرعية التي تدعو للتدبر وإعمال العقل وقد وصفهم المولى عز وجل بخشية الله “إنما يخشى الله من عباده العلماء”.
أما “رجال الدين” – بالمفهوم الشعبي – فهم أشخاص يُنظر إليهم على أنهم أوصياء على الدين، يتمتعون بقداسة رمزية ويُعطَون سلطة معنوية على الضمائر والعقول، وكأنهم وسطاء لا غنى عنهم للوصول إلى الله. نهجهم يقوم على النقل الأعمى والتقليد الموروث بعاطفة مطلقة وولاء غير قابل لقبول الرأي الآخر. ليس لهم من صفات العلماء إلا القليل، ولبلوغ الكمال المزعوم يمنحهم اتباعهم صفة “الشياخة” في رمزية تحاول الوصول بهم إلى درجة العلماء بينما أغلبهم في حقيقة الأمر أبعد ما يكونون عنها.
أخطر ما في اصطلاح “رجال الدين” أنه أحاط هؤلاء بهالة من الجلال، وأضفى عليهم قدسية غير مستحقة، بينما هم بشر تقودهم دوافع سياسية. أدى هذا إلى خلق طبقة ذات نفوذ روحي وسياسي، زعمت احتكار فهم الدين وتوزيع صكوك القبول والرفض، حتى غدا كثير من الناس يظنون أن خلاصهم الديني رهين برضا هذه الطبقة، لا بعلاقتهم المباشرة بالخالق، ولعل هذا يتجسد تمامًا في النهج الذي اتبعته الحركة الإسلامية في السودان وهي تقدم نفسها وصيًا وراعيًا للدين في السودان.
المتابع لمشروع الحركة الإسلامية في السودان يجده يهدف في جوهره إلى إعادة هندسة الوعي الديني بهدف ضمان الولاء السياسي للسلطة، وهو ما يُعدّ تكتيكاً متقدماً في تخدير الشعوب باسم الدين. لقد تمثل هذا المسعى في إحلال تدريجي وممنهج لكوادر الحركة الإسلامية التي تلبّست عباءة رجال الدين “العصريين” محل المرجعيات الدينية التقليدية العريقة، لا سيما الطرق الصوفية التي كانت تُشكل غالبية التدين الشعبي، والفقهاء التقليديين المستقلين. وقد تجاوز هذا الإحلال الجانب الفكري ليصل إلى الاستيلاء الفعلي على المؤسسات الدينية القاعدية ودور العبادة، والمنافذ الإعلامية والفقهية والتعليمية، مما منحهم احتكاراً لمصدر التشريع الديني وتطبيقه المجتمعي. فبمجرد السيطرة على هذه المنابر (المساجد، مؤسسات الزكاة، الأوقاف، إلخ)، أصبح بالإمكان صياغة الفتاوى وخطب الجمعة بما ينسجم تماماً مع الأجندة السياسية: فتبرر الظلم الاقتصادي، وتُوجب الطاعة المطلقة للحاكم (باعتباره “ولي الأمر الشرعي”)، وتُشيطن كل معارض له باعتباره “مُفسداً” أو “خارجاً على الإجماع”. وبهذا، تتحول وظيفة رجل الدين من ناصح ومحاسب للسلطة إلى مجرد بوق دعائي يُشرعن القهر، ويكفل استدامة التخدير الديني للشعب.
رجال الدين وشهوة السلطة
منذ القرون الأولى، نشأت علاقة غير كريمة بين من يسمون أنفسهم برجال الدين والسلطة. فقد سعى رجال الدين – أو بعضهم – إلى التقرب من السلطة السياسية، لا لمحاسبتها أو ردعها عن الظلم، بل لتبرير أفعالها المنافية للدين. وبالمقابل فقد لجأت السلطة إلى الاتكاء على هذه الفئة التي تجد القبول والرضا في المجتمعات المحكومة لضمان الولاء والطاعة وسد الباب أمام الثورات بدواعي الدين. التاريخ الإسلامي يحكي كثيرًا من الأمثلة البارزة منذ بواكير العهدين الأموي والعباسي، وكذلك تاريخ الأديان الأخرى في عصور الإقطاع، حيث استُخدم الخطاب الديني لتكريس الاستبداد وشرعنة الفوارق الطبقية، وأحيانًا لتبرير سفك الدماء وقمع الخصوم.
ثورات مناهضة للدين: ضحايا المفهوم
حين اختُزل الدين في ممارسات رجال الدين المتحالفة مع السلطة، نشأت حركات فكرية وسياسية مناوئة أساءت فهم الدين واعتبرته أداة قمع وتخدير للشعوب، بينما حركات أخرى ربطت ذلك بسلوك رجال الدين تحديدًا. فقد وُلدت مقولة “الدين أفيون الشعوب” التي عبّر بها كارل ماركس عن رفض موجّه في جوهره ضد “رجال الدين” وسلوكهم وليس ضد الدين أو القيم الروحية الأصيلة. التحليل الدقيق يبيّن أن ماركس لم يكن يقصد الدين كتجربة إيمانية أو روحانية، بل كان ينتقد الدين المؤدلج الذي يستخدمه رجال الدين لإخماد وعي الناس وتسكين غضبهم. بمعنى آخر: “الأفيون” ليس جوهر الدين، بل استخدامه من قبل النخب الحاكمة كوسيلة تخدير سياسي.
التجربة السودانية: الحركة الإسلامية واستخدام الدين
مثلت تجربة الحركة الإسلامية السودانية نموذجًا واضحًا لتوظيف الدين كأداة لإضفاء الشرعية على سلطة سياسية محددة. فمنذ انقلاب 1989، رفعت الحركة شعارات “الإنقاذ” و”المشروع الحضاري” لتقديم حكمها باعتباره امتدادًا لرسالة دينية مقدسة. هذه الشرعية المصطنعة جعلت السلطة تبدو وكأنها اختيار إلهي لا بشري، ما ساعدها على إقصاء الخصوم السياسيين وإقناع بعض قطاعات المجتمع بأن الوقوف ضد النظام هو بمثابة الوقوف ضد الدين ذاته. وبهذا، تم خلط المقدس بالسياسي على نحو خدم بقاء السلطة لا خدمة المجتمع.
أخطر ما قامت به الحركة الإسلامية في السودان هو تحويل الخلاف السياسي إلى قضية إيمانية. فقد وُصم المعارضون للنظام بأنهم “أعداء شرع الله” أو “خصوم الإسلام”، وهي استراتيجية هدفت إلى نزع الشرعية عن أي خطاب بديل. هذا الأسلوب لم يكتف بتقييد حرية الرأي والعمل السياسي، بل غذّى الانقسامات الاجتماعية والدينية، وأسس لثقافة تكفيرية وإقصائية. وبهذا أصبحت المعارضة ليست مجرد خلاف سياسي طبيعي في أي مجتمع حي، وإنما عُدّت تهديدًا للهوية الدينية نفسها.
ورغم أن الدين في جوهره يدعو للعدل والمساءلة ومقاومة الظلم، إلا أن الحركة الإسلامية في السودان عطّلت هذه القيم باستخدام خطاب ديني مموّه. فقد رُفعت شعارات مثل “الحاكمية لله” و”تطبيق الشريعة” لتغطية ممارسات فاسدة واستبدادية. وبدلًا من أن تكون القيم الدينية إطارًا لإصلاح الحكم، جرى الالتفاف عليها لتبرير الإفلات من العقاب ونهب المال العام وإقصاء الآخرين. بذلك تم تسخير الدين لإنتاج منظومة سياسية فاقدة للمصداقية والأخلاق، وهو ما مهّد لانهيار مؤسسات الدولة وتفاقم الأزمات الوطنية.
وسائل التخدير باسم الدين
من أخطر الممارسات التي لجأ إليها رجال الدين عبر العصور، ومن بينها التجربة السودانية إيهام الناس بأن نصيبهم من العدل والكرامة مؤجَّل إلى الآخرة: “حقكم في الجنة”. يعمل هذا الإيهام على تحويل مفهوم “العدل” من حقّ واجب النفاذ في الدنيا إلى وعد غيبي مُؤجَّل بالثواب. بدلاً من أن يكون الدين دافعاً للانتصار للمظلوم وإقامة القسط في الحكم والمجتمع، يصبح – بواسطة رجال الدين – وسيلة لـتسكين الألم الناتج عن الظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. فقد تم تصوير الصبر على الفقر والقهر والتهميش على أنه الغاية القصوى للتدين، وأن أي سعي لتحقيق العدالة الدنيوية هو “فتنة” أو “انشغال بزخرف الدنيا” يُنقص من نصيب الفرد في الآخرة وبالتالي ينصرف اهتمام الناس عن مطالب الحياة الكريمة (العدل، المساواة، توزيع الثروة) ويُحوّل إلى مطالب روحانية فردية (الجنة، الثواب)، مما يضمن للحاكم الظالم بقاء سلطته دون تحدٍّ.
ومن بين أدوات تخدير الشعوب تحميل الفقراء والمستضعفين مسؤولية فقرهم: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”. هذا التفسير المبتور للآية هو أداة فعالة لـتجريد الحاكم من المسؤولية عن سياساته الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة. يكمن الخطر في اجتزاء الآية لتصبح رسالتها: “أنتم فقراء ومظلومون بسبب تقصيركم الأخلاقي أو الديني الفردي، وليس بسبب سوء الإدارة أو فساد الحاكم”. ولجعل التغيير سلوكًا فرديًا عمد زبانية السلطان إلى تغييب مفهوم “القوم”: التغيير في الآية يتعلق بـالقوم (المجتمع، شاملًا الحاكم والمحكومين) وليس بالفرد فقط. التغيير المطلوب يشمل إقامة العدل ومحاربة الفساد والظلم في بنية الحكم والمجتمع ككل. التفسير التحريضي يحصر المسؤولية في السلوكيات الفردية مثل الصلاة، الصيام، القناعة، إلخ.
إن أحد أبرز وسائل تخدير الشعوب باسم الدين هو الاختيار الانتقائي للنصوص الدينية، حيث يتم عزل نصوص معينة عن سياقها القرآني أو النبوي الشامل، وتوظيفها لخدمة أجندة سياسية معينة. تجلى هذا الأسلوب بشكل واضح من خلال استخدام بعض الأطراف المتصارعة لخطابات دينية تبرر أفعالها وتضفي عليها قدسية زائفة. على سبيل المثال، قد يتم التركيز على نصوص “الجهاد” أو “الرباط” في سبيل الله، لتبرير القتال واستمرار الحرب، وتجاهل النصوص التي تدعو إلى حقن الدماء، والصلح، والتعايش السلمي، بينما الطرف الآخر ينتقي من الدين شرعية رد الظلم ويسقطها على ادعاءات وسرديات مضللة أنهم يحاربون لاسترداد حقوق الهامش. يُغفل هؤلاء أن الإسلام وضع ضوابط صارمة للقتال، وجعله استثناءً وليس قاعدة، وأن الغاية من الدين هي تحقيق العدل وإقامة السلم الاجتماعي. هذه الممارسة الخطيرة لا تؤدي فقط إلى تبرير العنف وتعميق الانقسام، بل تُشوه كذلك صورة الدين الحقيقية في أذهان العامة، وتحوّله من مصدر للرحمة والعدل إلى أداة للصراع والتخوين، مما يُعزز من استمرار حالة الفوضى والصراع بدلاً من البحث عن حلول جذرية قائمة على المصالحة والحوار.
نحو استعادة فهم الدين
إعادة الاعتبار للدين تستلزم فصل الدين عن احتكار الأفراد أو الجماعات، وإعادة تعريف العلاقة بين النص الديني والمجتمع.
فالدين لا يحتاج إلى “رجال” يمتلكونه، بل إلى علماء يفسرونه ومجتمعات تتدبره وتطبقه وفق مقاصده الكبرى في الحرية والعدالة والرحمة. إن نقد مفهوم “رجال الدين” لا يستهدف النيل من الإيمان أو التقليل من شأن العلم الشرعي، بل يسعى إلى تحرير الدين من قبضة المصالح الضيقة وإعادته إلى فضائه الإنساني الشامل. فلا خلاص حقيقي إلا إذا استعاد الناس حقهم في فهم دينهم والتفاعل معه بعيدًا عن وساطة تُقدّس الأشخاص وتستغل النصوص لتبرير الظلم.