سقوط الجلاد الأول: إدانة كوشيب تهز عرش الإفلات من العقاب… متى يتبع البشير قائد ميليشياته إلى لاهاي؟

بقلم كورير عيسى

يُعدّ الحكم بالإدانة الذي أصدرته المحكمة الجنائية الدولية في 6 أكتوبر 2025 بحق علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف باسم “علي كوشيب”، حدثًا تاريخيًا بالغ الأهمية وخطوة حاسمة طال انتظارها على طريق المساءلة عن الفظائع التي ارتكبت في إقليم دارفور بالسودان. هذا الحكم هو الأول من نوعه الذي يُصدر عن المحكمة في قضية مرتبطة بجرائم دارفور التي مضى عليها عقدان من الزمن، ما يمنح الناجين بارقة أمل في إمكانية تحقيق العدالة الدولية. لقد أدانت المحكمة القائد السابق لميليشيا الجنجويد بارتكاب 27 تهمة تتعلق بـ جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهي إدانة تُرسل رسالة واضحة لا لبس فيها مفادها أنه لن يُسمح بـ الإفلات من العقاب على الجرائم البشعة المرتكبة ضد المدنيين العزل.

يمثل هذا الحكم انتصارًا مدويًا للضحايا الذين انتظروا نحو عشرين عامًا لرؤية أحد الجناة يواجه العدالة، وبالنسبة للناجين من الوحشية التي قادها كوشيب، فإن الحكم يُعدّ أول اعتراف دولي رسمي بأن معاناتهم وآلامهم لها أهميتها ووزنها. في حيثيات الحكم، أقرّ القضاة بأن المحاكمة سمحت للمدنيين من قبائل الفور، الذين شهدوا على عمليات القتل والاغتصاب والتعذيب والإعدامات الجماعية التي دمرت مجتمعاتهم في 2003 و 2004، بالحصول على “صوت يمكنهم من خلاله إخبار العالم بما حدث لهم”. كما أكدت نائبة المدعي العام، نزهت شميم خان، على الطبيعة الحاسمة لهذا القرار، واصفة إياه بأنه “خطوة حاسمة نحو سد فجوة الإفلات من العقاب في دارفور”، وموجهة رسالة قوية إلى مرتكبي الفظائع في السودان، في الماضي والحاضر، مفادها أن العدالة “ستنتصر، وأنهم سيُحاسبون على ما سببوه من معاناة لا تُوصف للمدنيين في دارفور”.

تفاصيل الجرائم ونطاقها

أدانت المحكمة عبد الرحمن جنائيًا بارتكاب مجموعة من الجرائم تشمل القتل، والتعذيب، والاغتصاب، وانتهاك كرامة الإنسان. وقد نتجت هذه الجرائم عن تطبيق سياسة الأرض المحروقة الممنهجة، التي شملت إحراق ونهب قرى بأكملها، وعمليات إعدام جماعية، مما تسبب في وفيات وإصابات ودمار واسع النطاق. على الرغم من أن لائحة الاتهام الأولية كانت تتضمن 31 تهمة، فقد أدانت المحكمة في 27 تهمة فقط، حيث وجدت أن التهم الأربع المتبقية تضمنت سلوكًا إجراميًا قد تمت تغطيته بالفعل في الإدانات الأخرى. هذه التهم لا تمثل مجرد جرائم فردية، بل فئات قانونية تشمل مئات الضحايا، بما في ذلك 196 قتيلاً على الأقل في ثلاث عمليات موثقة، وعدد لا يُحصى من الضحايا الذين تعرضوا للاغتصاب والتعذيب أو التهجير القسري.

تركزت الاتهامات بشكل خاص على الهجمات التي استهدفت المدنيين في غرب دارفور، ومن أبرزها هجمات كودوم وبينديسي في أغسطس 2003، حيث اجتاح أكثر من ألف مقاتل من الجنجويد قُرى ذات أغلبية من الفور، خالية من أي وجود للمتمردين. وشهد المدنيون على عمليات اغتصاب ممنهجة، حيث كان المهاجمون يعملون في مجموعات منسقة، وتعرضت فتاة لم تتجاوز الخامسة عشرة آنذاك للاغتصاب والضرب مرات عديدة، ولا تزال تعاني من عواقب جسدية ونفسية. ومن الهجمات الأخرى الموثقة اعتقال وتعذيب وإعدام مكجر ودليج في مارس 2004، حيث تم فصل الرجال والفتيان، بمن فيهم بعض من لا تتجاوز أعمارهم 13 عامًا، عن عائلاتهم عند نقاط التفتيش. احتُجزوا في زنزانات مكتظة دون طعام أو ماء وتعرضوا للتعذيب بلا استثناء، وشمل التعذيب قطع آذان البعض وحرق آخرين بمكواة قبل أن يتم اقتيادهم إلى مواقع الإعدام.

لقد وثقت المحكمة كيف أمر عبد الرحمن شخصيًا في موقع إعدام خور طلبة المعتقلين بالانبطاح صفًا، ثم أمر قواته بإطلاق النار عليهم، واستمر القتل لمدة عشرين دقيقة. كما أشرف شخصيًا في قرية فيري على تحميل المدنيين في الشاحنات، وأحصى الجثث حتى امتلأت كل شاحنة، مصدراً أمره الوحيد في أحد مواقع الإعدام: “نفذوا التعليمات”. وكان من بين القتلى قادة مجتمع، ومزارعون، وثلاثة من رؤساء القرى، وطفلين لا يتجاوز عمرهما 13 عاماً، ومنسق للشرطة ضربه عبد الرحمن بنفسه على رأسه بفأسه.

على الرغم من إصرار علي عبد الرحمن طوال المحاكمة على أنه مجرد صيدلي غير متورط في جرائم الحرب، فقد اعتمدت المحكمة بشكل كبير على أدلة قوية وقاطعة، أبرزها شهادات الضحايا أنفسهم الذين تعرّفوا عليه بأنه الرجل الذي أحرق قراهم لاحقًا أو عرفوه من صيدليته في قارسيلا. وقد أيد أصدقاؤه وزملاؤه في الجيش المحكمة في إثبات أن “علي كوشيب” هو بالفعل علي محمد علي عبد الرحمن، بالرغم من محاولاته نفي هويته وادعائه بخطأ فيها. استمعت المحكمة أيضًا إلى تسجيل مصور سابق له وهو يقول: “أنا علي محمد علي عبد الرحمن، ولقبي كوشيب”. ووصفه شهود عيان بأنه قدم نفسه في مركز شرطة مكجر باسم “علي كوشيب” و”قائد الجنجويد” قبل أن يضرب المعتقلين بفأسه المعهود. وتفصيلاً لسلطته المطلقة، روت المحكمة كلماته عندما شكك أحد مرؤوسيه في أوامر قتل المدنيين الذين استسلموا، فرد عليه كوشيب: “أستطيع التواصل مباشرة مع الوزير. من أنت لتخبرني بهذا؟ سأضيع رصاصة واحدة فقط للتخلص منك”. ونتيجة لهذه الأدلة، وجدت المحكمة أنه أصدر أوامر مباشرة بإعدام ما لا يقل عن 100 مدني خلال أسبوع واحد في مارس 2004. وقد قدم الادعاء شهادات 81 شاهدًا و 1521 دليلًا، بما في ذلك وثائق من الحكومة السودانية والأمم المتحدة، وصور أقمار صناعية، وصور فوتوغرافية، ومقاطع فيديو، مما قدم صورة شاملة للمسؤولية الجنائية للقائد السابق للجنجويد.

المخطط المنهجي والتطور القانوني

خلص القضاة إلى أن جرائم عبد الرحمن لم تكن أعمالاً فردية عشوائية، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من “هجوم واسع النطاق ومنهجي” شنته ميليشيا الجنجويد وقوات حكومة السودان ضد السكان المدنيين في غرب دارفور، بين أغسطس 2003 ومارس 2004، أثناء الصراع المسلح بين الحكومة والجماعات المتمردة. ثبت للمحكمة أن الهجوم انطلق من خطة مدروسة اعتمدها مجلس الأمن الوطني السوداني في ديسمبر 2003، وهي “خطة الطوارئ” التي حددت مجتمعات الفور والزغاوة والمساليت على أنها تدعم التمرد، ودعت إلى إخضاعها تحديدًا باستخدام الميليشيات العربية المسلحة – الجنجويد – لأن هذه القوات غير النظامية لم تكن “مقيدة بالقواعد والأنظمة العسكرية”. وكان أحد الأهداف المعلنة هو “اغتيال المتعاطفين من بين قادة المجتمع ومسؤولي الإدارة المحلية”. وقبل أيام من الهجمات، كان وزير الداخلية آنذاك أحمد هارون يصل بطائرة هليكوبتر ويلقي خطابات تحريضية، حيث قال للحشود في مكجر، بحضور عبد الرحمن، “امسحوا الفور وامسحوهم، لا تبقوا أحدًا على قيد الحياة. الفور وأموالهم غنائم حرب للجنجويد”.

شكل الحكم سابقة قضائية مهمة في مجال القانون الجنائي الدولي، حيث تضمن “إدانات مهمة بارتكاب جرائم على أساس النوع الاجتماعي”، مما يجعله أول إدانة في قضية اضطهاد على أساس النوع الاجتماعي في المحكمة الجنائية الدولية. فقد أُدين عبد الرحمن بالاغتصاب كجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، وحكم القضاة بأن الهجمات أسفرت عن اغتصاب نساء وفتيات، مما تسبب في أضرار جسدية وثقافية واجتماعية بالغة للضحايا. كما فتح الحكم آفاقًا قانونية جديدة بإدانة عبد الرحمن بارتكاب جريمة ضد الإنسانية تتمثل في اضطهاد ذكور قبيلة الفور لأسباب سياسية وعرقية وجنسانية. يقر هذا الاستنتاج بالطبيعة المتداخلة لأشكال التمييز، مُقرًّا بأن ذكور الفور استُهدفوا بشكل منهجي بسبب هويتهم الذكورية، إلى جانب عرقهم وانتماءاتهم السياسية المُتصوَّرة.

يمثل الحكم الصادر عن المحكمة التي تتخذ من لاهاي مقرًا لها أول إدانة في قضية أحالها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى المحكمة الجنائية الدولية. وبمجرد تأكيد الإدانة وانتهاء عملية الاستئناف، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية فرض أحكام بالسجن لمدة تصل إلى 30 عامًا، أو في حالات الخطورة الشديدة، السجن مدى الحياة. ورغم أن المحكمة أصدرت مذكرات توقيف بحق مسؤولين آخرين، بمن فيهم الرئيس السوداني السابق عمر البشير ووزيره أحمد هارون، إلا أن عبد الرحمن هو الوحيد الذي خضع للمحاكمة حتى الآن، حيث يظل البشير وهارون بعيدين عن متناول المحكمة.

وفي أعقاب الحكم، جددت المحكمة دعوتها للقبض على الأفراد الآخرين الذين صدرت بحقهم أوامر اعتقال، مؤكدة أن “الصراع في دارفور يُشكل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين”. إن توقيت صدور حكم المحكمة الجنائية الدولية مؤثر بشكل خاص، حيث غرق السودان في حرب أهلية منذ أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية – وهي مجموعة ذات صلة مباشرة بالجنجويد – مما أدى إلى ما تصفه الأمم المتحدة بأنه واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.

وقالت ليز إيفنسون، مديرة برنامج العدالة الدولية في هيومن رايتس ووتش: “إن إدانة المحكمة الجنائية الدولية التاريخية التي طال انتظارها بارتكاب جرائم خطيرة في دارفور تُتيح أول فرصة للضحايا والمجتمعات التي أرعبها الجنجويد لرؤية قدرٍ من العدالة أمام المحكمة”، مضيفةً أن هذا الحكم ينبغي أن يُحفّز الحكومات على اتخاذ إجراءات لتعزيز العدالة بكل الوسائل الممكنة. وفي إشارة إلى استمرار العمل، قال نائب المدعي العام خان: “إننا نعمل على ضمان أن تكون محاكمة السيد عبد الرحمن هي الأولى من سلسلة محاكمة أخرى في المحكمة الجنائية الدولية فيما يتصل بالوضع في دارفور”. ومع أن القضاة أقروا بأن “مئات الآلاف الذين قُتلوا في دارفور لن يروا العدالة أبدًا”، فإن هذه الإدانة تمثل نقطة تحول حاسمة، ومحطة لتوثيق ما حدث في محفل عالمي، ودليلاً على أن العالم يراقب، وأن شهادات الضحايا مهمة، وأن رجلاً واحدًا على الأقل من المسؤولين سيُحاسب.

Exit mobile version