بقلم : د. كمال الشريف
حضورًا كنت في جلسات مختلفة للملمة الشأن السياسي السودان داخل وخارج السودان، تمكنت خلالها من معرفة أن الاقتصاد السوداني يحتاج للسياسيين والتجار معًا في شراكة واحدة من أجل أن تخرج البلاد من فوهة البركان وخرطوشة البندقية.
مشاركاتي في الخارج كانت إما في إطار عمل أو زيارة أو حتى رحلات علاجية التي دومًا لا تخلو من زيارة سودانيين سياسيين وتجار وأجانب أيضًا سياسيين وتجار.
يتفق الجميع من الزوار والمحللين أن بلاد السودان -هكذا يقولون بلاد السودان- لا بد أن يحكمها من يستطيع أن يحميها بالعقل وبالعضلات معًا، والقصد هنا عسكرة المدنيين وتسييس العسكريين.
وكما قال بوش الأب للصادق المهدي وللجزولي دفع الله في زيارته الأخيرة للسودان أيام نميري الأخيرة والانتفاضة الأبريلية الأولى تستعد لتنهش حكم مايو. قال بوش للسياسيين والمفكرين (الصادق والجزولي): “عليكم بالاتصال بالعسكر وبالأخص قائدهم ووزير دفاعهم الفريق سوار الذهب، فهو ومن معه في يدهم الحل لمساعدتكم للخلاص من نميري ونحن نثق فيهم”.
انتهى كلام بوش الأب.
وكان وقتها قد زار بوش معسكرات الجوع في دارفور التي غنى لها العالم واجتمع مع نميري قبل سفرته الأخيره لأمريكا، واجتمع أيضًا مع سوار الذهب وتاج الدين وهم قمة العسكر في السودان.
وكان السيناريو كما وضع وجاءت الانتخابات التي جاءت بالإنقاذ وكأنه فيلم متسلسل، وجاء أهل الإنقاذ بجيش آخر وبمفكرين وسياسيين آخرين لحكم البلاد، وبدأت نظريات المفكرين الإنقاذيين ومشاريع السياسيين الإنقاذيين في تنفيذ مشاريعها التي جعلت من عسكرة العسكريين لثالث جيوش أفريقيا وقتها (قوات الشعب المسلحة) تحت إمرة المفكرين والسياسيين الإسلاميين، وحدث ما هو معروف تحول الجيش إلى شركة استثمار تجاري، وإمبراطورية تجارية ضخمة يتحدث قادته اقتصاد ويخطط للحرب جيوش أخرى وينفذ طلعاتها أفراد آخرون كما هو معروف لدينا ولديكم وخرج جيش الشعب من السياسة نهائيًا.
وبعد ثلاثين عامًا اندلعت أبريلية أخرى في السودان كانت ضد الجيش أولًا ،نعم ثورة ديسمبر كانت أولًا ضد الجيش استفزازًا له في ترك أمور البلاد بأكملها تحت سيطرة أفراد تديرها مجموعات بأفكار مترهلة لأنها مرتبطة بالمال ودائما النظرية تقول إن من يخطط للاستيلاء على المال لا يقصد إدارته ولكنه يقصد نهبه.
وهذا ما حدث بالنسبة للسياسيين من عساكر المدنيين طيلة ثلاثين عامًا، وجاءت سيرة سياسة عسكريين جديدة بعد انتهاء حكم تجار السياسة العسكريين السابقين وكانت مراحل تفاوضهم مع المدنيين بعد الإطاحة بالإنقاذ تدور في دائرة يعرف خلالها المدنيين أمور العسكرة أكثر من العسكر نفسهم، ولهذا ذهب العسكر لمراجعة نظريات العسكر السياسيين السابقين، وتمثل هذا في قبول التفاوض والجلوس للوثيقة الدستورية واتفاق جوبا، وكلها كانت ضمن سيناريو يعلم العسكر السياسيون أنه يقود إلى فراغات وسط المدنيين السياسيين حتى ينحر بعضهم البعض، وهنا كانت الكارثة للعسكريين باهتمامهم بسياسيي اتفاق جوبا أكثر من اهتمامهم بسياسيين كانوا يتزعمون إعلاميًا المواكب والتتريس قبل سقوط الإنقاذ من مهنيين وسياسيين، وكان تدمير السياسة على يد العسكر السياسيين سببًا مباشرًا في تدمير آليات الاقتصاد ومنهجيات السلام واحتفاليات الشعب بثورته ضد الإسلاميين.
وأصبح المدنيون أكثر عسكرية من العسكريين برفضهم مبادرات داخل ومبادرات مثل تلك التي قادها بوش الابن مع المهدي والجزولي بالاعتماد على العسكر وسوار الذهب، الذي انقلبت البلاد بعدهم لمصلحة الإسلاميين على يد عسكريين نفذوا أجندة حزب إسلامي.
وخسرت البلاد ما خسرت منذ أن حاول العسكريون أن يصبحوا سياسين بعد 25 أكتوبر2021 باتفاقهم سياسيًا بوجه معدل لفظيًا للمؤتمر الوطني، بأنهم يسعون لحركة تصحيحيه لثورة سبتمبر سياسيين ومسلحين (الحركات المسلحة)، وهذا لايوجد في قواميس السياسة بأن تكون من طرف مليشيا وبجيشك وتشارك في برنامج ديمقراطي عادل وحر وسلمي، وخسرت فاتورة إعفاء 54 مليار دولار من الديون وفاتورة توريدات للسودان خلال 3 سنوات تزيد عن 18 مليار من جهات مختلفة لتعمير كل البنيات في السودان، والتزمت لهم بدفع 35 مليون دولار شهريًا كمستحقات سلام نتيجة للدعم السياسي منهم لحركة 25 أكتوبر، وجعلت من المواطن الذي انهزم كثيرًا خلال 30 عامًا ماضية يدفع 2 ترليون جنيه كضرائب سنويًا وترليونات أخرى من جبايات أخرى حتى يغطوا استحقاقات السلام الذي شهدت مناطقه قتل أكثر من 22 ألف شهيد خلال عام واحد من 25 أكتوبر ٢٠٢١.
ولهذا كله بدأ عسكر السودان يحاولون أن يدخلوا السياسة ويناقشون مدنيين جعلوا منهم عسكريين بالندية المطلقة التي أشاعوها بينهم بأن يكونوا شركاء تحت مسمى خروج الجيش من السياسة، وتسليم السياسة للمدنيين وذهاب الجيش للثكنات وأصحاب الثكنات يسيطرون على 88% من اقتصاد البلاد ومن خيرات والباقي يشاركون فيه تجار سياسة آخريين، وهنا تسقط نظرية أن يكون الجيش خارج السياسة للسيطرة على المال والاقتصاد، وجاءت لعسكر المدنيين فرصة للقضاء على تمكين العسكر السياسيين خلال 30 عامًا سابقة بعد سيطرتهم المشروعة منهم وبقوانينهم وفتواهم على كل شرايين وأوردة الدولة.
ولكنني أظن أن الأمر الذي ذهب للعالم تحت مظلة الرباعية قد يكون مملًا للرباعية نفسها وهذا مربط فرس سادة الحرب بأطرافها المختلفة، وهذا وقت تجارة تدور في الخفاء ولابد أن يطول الدرب حتى تجف الأرض وتتشقق عروق الناس يباسًا وقهرًا.
إن الموافقة على بعض من بنود الرباعية يؤكد لك أن الحكومة الحالية قد تعرج بأعضاء الرباعية إلى سوق المصلحة المشتركة، ويصبح المدنيون الذين استشهدوا في مشوار الثوره كومبارس في حكم قادم، وهذا يمثل لك جزءًا من الفتات الذي أخذه المدنيون قبل ٢٥ أكتوبر الذي جاء بالحرب من أجل الوصول لمربع يكون فيه.
العسكر يتحكمون ولا يحكمون.