السودان بين المطرقة الدولية وسندان الصراع الداخلي: هل اقترب زمن التسوية؟
حاتم أيوب أبو الحسن
في خضم العتمة التي تلف المشهد السوداني تتزاحم التطورات السياسية والقانونية والدبلوماسية على نحو غير مسبوق لتضع البلاد في قلب معادلة معقدة: حرب بلا نهاية تلوح، وضغوط دولية تتعاظم، وملاحقات قضائية بدأت تطرق أبواب صناع الحرب. وبين مطرقة المجتمع الدولي وسندان التعنت الداخلي يقف السودان على مفترق حاسم قد يحدد ملامح مستقبله القريب.
من دارفور إلى كردفان، ومن ضواحي الخرطوم إلى شرق البلاد، يستمر الصراع بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع بلا أفق واضح للحسم. التوازن العسكري جعل الطرفين عاجزين عن تحقيق نصر قاطع، فيما يدفع المدنيون أثماناً باهظة من حياتهم وجوعهم وتشردهم. في دارفور تحديداً تختلط الجغرافيا بالدم، حيث تشهد مدينة الفاشر معارك متقطعة في وقت تسعى فيه قوات الدعم السريع لتطويق المدينة بينما ترد القوات المسلحة بهجمات مضادة. أما في شرق السودان فقد تصاعدت الهجمات بالطائرات المسيّرة على بورتسودان وكسلا، ما كشف عن توسع رقعة الحرب إلى مناطق كانت تُعتبر آمنة.
المشهد الإنساني أكثر قسوة من أي وقت مضى. مجاعة تقترب من حدود الكارثة، وانهيار تام في الخدمات، وملايين المشردين يتنقلون بين العراء وحدود الدول المجاورة، بينما يستمر العجز الدولي عن إيصال المساعدات إلى المناطق المنكوبة.
رغم تعدد المبادرات فإن مساعي وقف إطلاق النار ما زالت تراوح مكانها. الرباعية الدولية المكوّنة من الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات تسعى منذ أشهر لإعادة الطرفين إلى طاولة الحوار من خلال خطة سلام تدريجية، لكن الانقسامات بين العواصم الأربعة حول آليات التنفيذ تعيق التقدم. أما الرباعية الموسعة للمبعوثين التي تضم الاتحاد الأفريقي والإيقاد والأمم المتحدة والجامعة العربية فهي تحاول توحيد الجهود، غير أن ضعف التنسيق وتضارب المصالح الإقليمية جعلاها عاجزة عن فرض مسار موحد. حتى الآن لا توجد وساطة تمتلك أدوات الضغط الكافية لإجبار الأطراف على الالتزام بوقف شامل للقتال، فالمبادرات تتكاثر، لكن القرار الفعلي يبقى بيد الميدان، حيث البنادق هي اللغة الوحيدة المسموعة.
في الوقت ذاته تشهد الساحة القضائية تطورات لافتة. ففي سابقة تاريخية أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أول إدانة بحق أحد قادة مليشيات دارفور علي كوشيب، ما أعاد إلى الواجهة ملف الجرائم الدولية في السودان. هذه الخطوة تمثل رسالة واضحة مفادها أن العالم بدأ يتعامل مع الحرب في السودان كملف عدالة لا كصراع داخلي. وفي مسار موازٍ رفع السودان دعوى أمام محكمة العدل الدولية يتهم فيها الإمارات بتمويل قوات الدعم السريع والمساهمة في الإبادة الجماعية في دارفور والخرطوم. المحكمة بدأت جلساتها ويتوقع أن تصدر تدابير مؤقتة خلال الأسابيع المقبلة قد تشمل منع تزويد الأطراف المتحاربة بالسلاح أو دعمها مالياً. هذه التحركات القانونية تشكل ضغطاً متصاعداً على الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع وقد تُحدث تحولاً نوعياً في المشهد، خاصة إذا قررت المحكمة اتخاذ إجراءات ضد دول أو شخصيات محددة.
وفي مجلس الأمن لم يعد الصراع السوداني ملفاً هامشياً، فقد أصدر المجلس مؤخراً بياناً يرفض أي محاولة لتشكيل حكومة موازية من قبل قوات الدعم السريع معتبراً ذلك تهديداً مباشراً لوحدة السودان. لكن رغم التصريحات القوية لا يزال الموقف الدولي متردداً، فبعض الدول الغربية ترى في الضغط القانوني وسيلة تدريجية للتهدئة بينما تميل أطراف عربية وإفريقية إلى حل سياسي يضمن بقاء مؤسسات الدولة دون انهيار شامل. التحركات الدبلوماسية الأخيرة، خاصة في نيويورك ولندن، تشير إلى أن المجتمع الدولي بدأ يفقد صبره تجاه استمرار الحرب، ما يُنذر باحتمال فرض هدنة إنسانية تحت رقابة دولية قريباً ولو جزئياً.
الاحتمالات القادمة تدور حول ثلاثة مسارات رئيسية. الأول، التوصل إلى هدنة إنسانية محدودة مدتها ثلاثة إلى ستة أشهر تسمح بإيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة برعاية الرباعية الدولية، وهي أقرب إلى استراحة حرب منها إلى سلام فعلي. الثاني، تصعيد قانوني وسياسي متزامن إذا أصدرت محكمة العدل الدولية قرارات ضد دول أو جهات داعمة، مما سيؤدي إلى عزلة أكبر لقوات الدعم السريع وربما إعادة تموضع إقليمي نحو التهدئة. الثالث، تثبيت واقع الانقسام الميداني في حال فشل كل المساعي، وهو ما قد يقود إلى تقسيم فعلي للبلاد بين مناطق تسيطر عليها القوات المسلحة وأخرى بيد الدعم السريع، لتنشأ دولتان بحكومتين وسلطتين متوازيتين في الوطن الواحد.
ورغم كل هذا السواد تلوح في الأفق ملامح تحول قادم. فالمجتمع الدولي لم يعد يتعامل مع الحرب في السودان كأزمة محلية بل كتهديد للاستقرار الإقليمي، والعدالة الدولية بدأت تتحرك ولو ببطء. المعادلة لم تعد من سينتصر، بل من سيتنازل أولاً. والجواب على هذا السؤال هو الذي سيحدد ما إذا كان السودان سيخرج من نفق الدم إلى أفق السلام، أم سيغرق أكثر في ظلام الانقسام. ويبقى الأمل معلّقاً على يقظة الضمير السياسي وعلى لحظة وعي يدرك فيها الجميع أن لا نصر في حربٍ كل ضحاياها من أبناء الوطن الواحد.
نداء إنساني
أيها العالم الذي يرى ولا يتحرك، في السودان اليوم يموت الجوعى بصمت وتُدفن الطفولة تحت الركام، وتغدو المدن رماداً والبيوت قبوراً مؤقتة لأهلها. لم يعد الحديث عن أرقام الضحايا كافياً، فكل رقم هو وجه، وكل وجه حكاية لوطن يُطفأ فيه الضوء يوماً بعد يوم. إن إنقاذ السودان لم يعد خياراً سياسياً، بل واجباً أخلاقياً على الإنسانية جمعاء. أوقفوا نزيف الأرض قبل أن يبتلعها اليأس، فالشعب السوداني الذي أنهكته الحروب لا يطلب أكثر من حقه البسيط في الحياة، وفي فجرٍ جديد لا يُسمع فيه سوى صوت السلام.
نعود ….
حاتم أيوب