أفق جديد
عادت عواطف عبد الرحمن، البالغة من العمر ثلاثين عاماً، إلى منزلها دون أن تلمس يد طبيب أو تتلقى قطرة علاج واحدة، لتلفظ أنفاسها الأخيرة بين يدي والدتها التي لم تحتمل لمس جسدها المحموم بحرارة حمى الضنك.
طرقت عواطف أبواب مستشفيات الخرطوم واحداً تلو الآخر، لكن الأبواب أُغلقت في وجهها بحجة “عدم توفر أسرّة أو محاليل وريدية”. وبعد رحلة يائسة، أعادها أهلها إلى المنزل لتفارق الحياة سريعاً.
قصة عواطف ليست استثناءً، فهي واحدة من عشرات القصص التي تتكرر في الخرطوم ومدن أخرى، حيث يتنقل المواطنون بمرضاهم بين المستشفيات بحثاً عن علاج دون جدوى، فيما تفتك حمّى الضنك والملاريا وسواهما من الأوبئة بأجساد المنهكين في بلد أرهقته الحرب وتهاوت فيه منظومة الصحة العامة.
وتؤكد تقارير وزارة الصحة هذا الواقع المأساوي، إذ تشير إلى توسّع رقعة انتشار المرض في الخرطوم والجزيرة، اللتين سجلتا أعلى معدلات للإصابة والوفيات.
تقارير رسمية متباينة
رغم إعلان وزير الصحة الاتحادي عن الانتشار الكثيف للأوبئة وارتفاع معدلات الإصابة بالكوليرا والملاريا وحمّى الضنك، فإن التقارير الرسمية تقلل من عدد الوفيات جراء حمّى الضنك.
وأوضح الوزير هيثم محمد إبراهيم لـ”أفق جديد” أن عدد الوفيات المسجّلة في ولاية الخرطوم لا يتجاوز عشر حالات، مقارنة بآلاف الإصابات، أي بنسبة لا تتجاوز 0.2%.
وعزا الوزير تفشي الأوبئة إلى الأوضاع التي تمر بها البلاد من تخريب مصادر وشبكات المياه، وتراكم النفايات، وتوقف العمل الروتيني لسنوات، مؤكداً أن هذه العوامل أدت إلى ارتفاع معدلات الإصابة.
أشار وزير الصحة إلى أن الجهود جارية لمكافحة أطوار نواقل الأمراض داخل المنازل، مبيناً أن 250 وحدة من المحاليل الوريدية تم توزيعها على ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأزرق لعلاج الحالات الطارئة داخل المستشفيات، وأن العلاج المجاني يقتصر على المرضى داخل المؤسسات الصحية، بينما يتناول غيرهم العلاج وفق البروتوكول الطبي المعتمد.
وفيما يتعلق بما وُصف في وسائل الإعلام بـ”سمسرة الدواء”، أوضح الوزير أن القطاع الخاص حسم هذه المخالفات، وتم توزيع 300 محلول وريدي من البنادول على الصيدليات الخاصة، داعياً المرضى إلى الالتزام بالبروتوكول العلاجي، وكاشفاً عن خطة خمسية لمكافحة حمّى الضنك والملاريا.
بيانات الطوارئ
أظهر تقرير مركز عمليات الطوارئ بوزارة الصحة ارتفاع عدد الإصابات والوفيات الناتجة عن الكوليرا والملاريا وحمى الضنك.
فقد تم تسجيل 282 إصابة جديدة بالكوليرا، منها 95 في كسلا، و72 في نهر النيل، و57 في القضارف، و19 في البحر الأحمر، و11 في سنار، إضافة إلى ست حالات وفاة جديدة، أربع منها في كسلا، وواحدة في كل من نهر النيل وسنار.
كما سجلت زيادة ملحوظة في إصابات الملاريا خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، خصوصاً في الخرطوم.
مخاوف وسط المواطنين نتيجة الانتشار الكثيف للاوبئة في الولايات، وحالة التردي التي تشهدها المستشفيات بسبب الضغط الكبير والنقص الحاد في المحاليل الوريدية الأساسية، بالإضافة الى عدم توفر اسرة كافية للمرضى خاصة في اقسام الطوارئ ولجأت بعض الولايات لاتخاذ إجراءات احترازية لمجابهة تفشي حمى الضنك والملاريا، التي شهدت انتشاراً واسعاً خلال الفترة الأخيرة في عدد من محليات الولاية
وقررت وزارة التربية والتعليم تعليق الدراسة بجميع المراحل الثانوية بالولاية لمدة خمسة عشر يوماً، ابتداءً من يوم الأحد 21 سبتمبر 2025 وحتى السبت 4 أكتوبر 2025. منعاً لانتقال العدوى داخل المدارس، مع متابعة الوضع الصحي بالتنسيق مع الجهات المختصة لاتخاذ ما يلزم من تدابير خلال فترة التعطيل، وفقاً للسلطات التعليمية.
المناقل… المدينة المرجعية
لم تكن المناقل بمعزل عن بقية مدن السودان في الإصابة بالأوبئة المنتشرة، فهي ظلت منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بمثابة مرجعًا أساسيًا بعد الحرب في مدني عاصمة ولاية الجزيرة، وقد انتقلت اليها كامل الحكومة واصبحت ذات كثافة واكتظاظ في جميع المجالات،وبينها المؤسسات الطبية أصبح مستشفى المناقل التعليمي مستشفى مرجعيًا.
ووسط مخاوف انتشار حمى الضنك والملاريا أصاب المواطنين الهلع والخوف، سارعت السلطات الصحية بتكوين لجنة الطوارئ الصحية بمحلية المناقل للسيطرة على الوضع الصحي.
وكشف رئيس لجنة الطوارئ الصحية بمحلية المناقل د. الامين خلف الله ل(افق جديد) عن أن اللجنة وضعت استراتيجة لصرف الدواء (المحاليل الوريدية)، منعا لتكدس الأدوية في المنازل أو التهرب خارج محلية المناقل، وحددت الاستراتيجة ضوابط ممثلة في عدم السماح بصرف الوصفة الطبية بعد مرور 24 ساعة، فضلًا عن وضع احترازات صحية شملت التوعية بالمرض وتخصيص مراكز حجر ووحدات لمرضى حمى الضنك.
وقال إن المناقل تمثل المرجعية للمخزون الاستراتيجي الذي يرتكز عليه الدواء في السودان، وأشار إلى توفر الدواء بمخازن المؤسسات الحكومية.
وأكد خلف الله توفر 90% من المحلول في الصيدليات،وطمأن بتوفر مخزون البنادول الاستراتيجي ووجود اكثر من 2 ألف محلول خاص تحت سيطرة اللجنة في حال حدوث ازمة،
وأشار إلى توزيع نحو 1800 محلول وريدي من البنادول لبعض صيدليات المناقل من قبل وكيل لشركة الدواء في مدني، موضحًا عن تغذية مدينة مدني عقب تحريرها من مليشيا الدعم السريع بكثير من الأدوية كالمحاليل الوريدية.
ولفت خلف الله إلى توفر الدواء بالصيدليات بنسبة مائة بالمائة بما فيها كل أنواع المحاليل الوريدية.
وقلل من انتشار حمى الضنك، كاشفًا عن تسجيل 5 حالات، فقط لا تتطلب تخصيص مراكز ووحدات، كاشفًا عن أخذ عينات عشوائية لتحديد المرض إذا كان وافد من الأشخاص المسافرين أو وجود طور ناقل للضنك داخل المنطقة.
وأشار إلى أن الشؤون الصحية وضعت تغطية شاملة للحد من المرض، وتكاتف الجهات الأمنية والصحية والشعبية بجانب مبادرات التوعية بالمرض.