دور الثقافة.. إظلام تام زمن الحرب


وسيلة حسين
عاشت دور الثقافة ومراكزها في السودان إظلامًا وصمتًا تامين، وشهدت إغلاقًا قسريًا طوال سنوات الحرب، نُهبت ممتلكاتها وانهارت بُناها وتحول الكثير منها لثكنات عسكرية وخطوط دفاع حربي في المدن التي عانت اشتباكات ومواجهات عنيفة ومروعة، وخسر أغلب المثقفين مكتباتهم المنزلية وملتقى تجمعاتهم العامة، وسقط البعض منهم ضحايا رصاص الحرب، وتعرضوا للاحتجاز والموت والنزوح.
بدورها لم تستطع المدن الآمنة التي نزح إليها المبدعون، صناعة حراك ثقافي وجمالي يُعَوّض النشاط الأدبي والفني الذي كان فاعلًا بكثافة قبل الحرب، وعانت هي الأخرى مواتًا ثقافيًا وأدبيًا، فغاب دور المثقف والمبدع وتلاشى كُليَّا في زمن الحرب.
حرب لئيمة
يقول الشاعر الأصمعي باشري، إن المثقفين السودانيين عاشوا محنة الحرب مرتين، مرة مع حالة النزوح والموت وحمى الضنك، وأخرى في شقاء غياب النشاط الثقافي والأدبي في مناطق النزوح . ويضيف: “من تجربتي الخاصة، وبعد نزوحي إلى ولاية نهر النيل ومدينة شندي، حاولت مع الأستاذة إيمان حبيب الله، عضو اللجنة التنفيذية لنادي السينما السوداني، بالتنسيق مع أعضاء النادي الذين لجأوا إلى القاهرة، استضافة فعالية أسبوع السينما الأفريقية في مدينتي شندي وعطبرة، وهي فعالية سنوية كانت تستضيفها الخرطوم برعاية الاتحاد الأوربي والمراكز الثقافية الأجنبية.
يخبر الأصمعي في حديث إلى “أفق جديد” أنهم عملوا خلال شهرين على تذليل كل الصعاب المفروضة بسبب الظروف الأمنية، وقد نجحوا في إقناع الجهات المستضيفة، بعد اجتماعات مكثفة، وفي استنهاض همة المهتمين في المدينتين، لكن مشكلات التمويل والتحويلات حالت دون المواصلة في إنجاح أسبوع السينما الأفريقية لأول مرة في شندي وعطبرة، رغم ما كان سيحدثه من حراك مطلوب في ذلك الوقت من النزوح الجماعي للمثقفين عمومًا.
ويقول: “حاولت أيضًا مع بعض مثقفي المدينة خلق فضاء ثقافي مثل مقهى أو نادي، لكن دائما ما كنا نصطدم بالظروف الأمنية على الأرض، وإسفيريًا لم تنجح أيضًا محاولة استعادة منتدى مشافهة النص الشعري مع الأعضاء في الداخل السوداني وخارجه، ولا تزال المحاولات جارية.”
صدرت للأصمعي باشري في أثناء الحرب مجموعته الشعرية الثانية عن دار الموسوعة الصغيرة، لكنه يعجز حتى الآن في الاحتفاء بها بين الأصدقاء والقراء كما جرت العادة بسبب تصدع وغياب المشهد الثقافي وانحساره بالكامل.
عودة النشاط الثقافي أثناء الحرب أمر صعب للغاية، ويصطدم دائما بالظروف الأمنية والاقتصادية، والمراكز والمؤسسات الثقافية في حاجة للكثير من الوقت لاستعادة مقارها الخربة وأساسها المنهوب وميزانياتها الصفرية. ومع ذلك فثمة إشراقة أنجزها مثقفون وأدباء في مدينة عطبرة حيث نظموا منتديات وإن لم تكن راتبة، لكنهم نجحوا للحد البعيد”. يقول ومن ثم يضيف: “الحرب لئيمة وجاءت وبالًا على السودانين، خاصة المثقفين والفنانين والمبدعين، فقدنا منهم الكثيرين، ومرض منهم أيضًا الكثيرين، واستعادة الروح على خلفية هذه الأحزان والمآسي أمر صعب جدًا، وأرجو أن يجتاز المثقفون هذه الأزمة وأن تعود الروح الوثابة باستعادة النشاط والمساهمة في البناء وإعادة الزخم الثوري من أجل سودان حر ديمقراطي”.
ثكنات عسكرية
بدوره يخبر الشاعر هاشم جبلابي أنهم حاولوا إقامة أنشطة في مناطق النزوح التي لجأوا إليها، تمثلت في تقديم كورسات وجلسات تثقيف موسيقى وإقامة منتدى شعري وغنائي في “نادي شندي الثقافي”. “لم يدم هذا النشاط طويلاً لجهلنا بفهم عقلية أصحاب الشأن والمكان، وحين انتقلنا إلى ولاية الجزيرة وجدنا من سبقنا هناك قد فتحت لهم أبواب مسرح الجزيرة في حاضرتها مدينة (ودمدني)، حيث أقيمت االملتقيات الغنائية والعروض المسرحية القصيرة التي قطعها اجتياح الولاية وتمدد الحرب إليها فنزح المبدعون مرة أخرى”. يقول جبلابي في حديث إلى “أفق جديد” ومن ثم يضيف: “في أعقاب انسحاب المليشيا من الخرطوم بدأت الدعوات للعودة إلى مركز شباب أم درمان، مباشرة بعد قرار قيادة الجيش إخلاء المرافق الحكومية من القوات المرابطة فيها. نفذ القرار في كل الأمكنة الأخرى، عدا مركز شباب أم درمان، تحول إلى ثكنة عسكرية حتى اليوم، لكننا ظللنا نداوم على الحضور يومياً للجلوس في الخارج بجوار السياج المحيط بالمركز، كما قمنا بالدعوة لـ(لمّة) كل يوم خميس، نقيم فيها ما يشبه نشاطًا ثقافيًا مصغرًا من غناء وقراءات شعرية، ظناّ منّا بأن من بالداخل من عناصر عسكرية سترأف لحالنا وتغادر، لكنهم منعونا التصوير المباشر للفعاليات”.
ويقول جلابي إنهم خاطبوا المجلس الأعلى للشباب والرياضة الذي تتبع له مراكز الشباب بالولاية لإعادة المركز لدوره الطبيعي، “فهو ليس ثكنة عسكرية”، لكنهم لم يتلقوا رداّ حتى الآن: “ظللنا على هذا المنوال إلى أن تم منعنا من ممارسة أنشطتنا بجانب السور، بل وتم كذلك طردنا من المكان”.
مقاومة
يرى المخرج المسرحي ربيع يوسف الحسن أن كثيرين من المثقفين والمبدعين لم يستسلموا وراهنوا على خيار المقاومة وموقعها في مغالبة ومدافعة كارثية الحرب وآثارها، وقد نجح هذا الخيار في إنتاج الكثير جدًا من الأنشطة الثقافية والإبداعية في العديد من الولايات، كولاية الجزيرة قبل سقوطها، حيث لجأ إليها غالبية المبدعين وواصلوا أنشطتهم في مقار بديلة وفي دور إيواء النازحين، وفي ولاية النيل الأبيض رغم الحصار الطويل، حيث قدمت أعمال إبداعية إلى جانب الطعام في التكايا والمطابخ المركزية، وكذلك تواصل النشاط في ولايات نهر النيل والبحر الأحمر والنيل الأزرق التي قدمت مسرحًا ممتازًا رغم التهديد والحصار والمضايقات. “بل انتشرت هذه الأنشطة خارج حدود بلدنا المكلوم حيث هاجر بفنونهم وأنشطتهم بعض المثقفين والمبدعين، فشهدت مدن وعواصم تشاد ويوغندا ومصر ونيروبي الكثير من الأنشطة”. يقول ربيع في حديث إلى “أفق جديد” ومن ثم يضيف: “كل ذلك مهم ومفرح لأنه نجاح وانتصار لخيار المقاومة، إلا أن النجاح الأعظم في رأيي لهذا الخيار هو إنتاج خطاب معرفي وفكري موازٍ أو لاحق لهذه الأنشطة، خطاب زحزح وشكك في خطاب وأيديولوجيا الحرب والكراهية، وبالتالي صارت هناك أدبيات وسرديات مختلفة مدّت مساحات الأمل والحياة”.

 

Exit mobile version