فساد الامتحانات في السودان: جبايات، تواطؤ، وامتهان لحقوق التلاميذ (٢ – ٦) 

رسوم خيالية وإعاشة مفقودة.. أين ذهبت أموال التلاميذ؟

حسن عبد الرضي

إذا كان المقال الأول قد كشف غياب الشفافية في إدارة الامتحانات بتلك الولاية، فإن هذه السطور تضع إصبعًا أكثر مباشرة على الجرح النازف: الأموال الضخمة التي دُفعت باسم “رسوم الامتحانات والترحيل والإعاشة”، ولم يجد منها التلاميذ وأولياء أمورهم إلا الوهم.

لقد دفع كل تلميذ من طلاب المرحلة المتوسطة هذا العام ما يقارب (٥٠ ألف جنيه) كرسوم للامتحان، يضاف إليها (١٠٠ ألف جنيه) بحجة الترحيل والسكن والإعاشة. هذا يعني أن الأسرة السودانية، المنهكة أصلًا من الغلاء والضائقة الاقتصادية، اضطرت إلى بيع ما تملك أو الاستدانة من أجل تأمين مستقبل أبنائها التعليمي.

لكن المفاجأة الصادمة لم تكن في المبلغ، بل في اكتشاف أن هذه الأموال لم تُصرف في الغرض الذي فُرضت من أجله. فأهالي القرى التي استضافت التلاميذ بولاية الجزيرة – كما فعلوا في امتحانات الشهادة الابتدائية الشهر الماضي – تكفلوا بكل شيء: السكن، الطعام، وحتى الرعاية اليومية. لم يستلم هؤلاء الأهالي الكرماء مليماً واحداً من الـ(١٠٠ ألف جنيه) التي دفعها كل تلميذ.

أكثر من ذلك، اضطر بعض التلاميذ إلى جمع “قروش جيبهم الخاصة” ليدفعوا من حرّ أموالهم ثمن وجبة إفطارهم بعد الامتحان، مباشرة في اليوم الأول! تصوروا أن أطفالًا في عمر الزهور، أرهقوا أسرهم بمصاريف خرافية، يجدون أنفسهم في نهاية المطاف يدفعون من مصروفهم الخاص ما كان ينبغي أن توفره إدارة الامتحانات من بند “الإعاشة”!

إذن، السؤال الذي لم يعد مجرد همس بين أولياء الأمور، بل صار صرخة في وجه المسؤولين هو:

“أين ذهبت أموال الترحيل والسكن والإعاشة؟”

الجواب، وإن لم يُعلن رسميًا، أوضح من الشمس: ذهبت إلى جيوب شبكة فساد لا ترى في التلميذ سوى بقرة حلوب، ولا في الأسرة سوى ضحية مستسلمة للجبايات.

هذا ليس فسادًا عاديًا، بل هو جريمة مكتملة الأركان، لأنها ارتُكبت في حق الأطفال، في حق مستقبل الوطن. وإذا كان من سرق المال العام قد أجرم، فإن من تستر على الجريمة أجرم أكثر.

إننا أمام مشهد بالغ الفظاعة: شعب يدفع، أطفال يعانون، وأهالٍ يطعمون من جيوبهم الخاصة، فيما تتحول الملايين إلى “كروش رملية” لا تشبع. أي مهزلة هذه؟ وأي مستقبل ننتظره من منظومة تعليمية تحولت إلى ماكينة جباية بلا ضمير؟

لقد آن الأوان لكشف الحساب. فإما أن تعلن وزارة التربية بتلك الولاية أين ذهبت هذه الأموال بالتفصيل، وإما أن تظل وصمة عار في جبين دولة فقدت آخر مقومات الأخلاق.

 

 

Exit mobile version