محمد عمر شمينا
منذ أن أحال مجلس الأمن في العام 2005 ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية بموجب القرار 1593، ظل النقاش محتدماً حول جدوى هذه الخطوة، وهل ستتحول إلى واقع يضع المتورطين في جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب أمام العدالة. لسنوات طويلة بدا أن تلك القرارات لا تعدو كونها أوراق محفوظة في أدراج المحكمة بلا أثر ملموس، خصوصاً مع استمرار النظام السوداني في حماية المطلوبين ورفضه التعاون مع المحكمة. غير أنّ محاكمة علي محمد علي عبد الرحمن المعروف بـ(علي كوشيب)، القائد الميداني لميليشيات الجنجويد في دارفور، شكلت نقطة تحوّل حقيقية، إذ أصبح أول متهم يمثل فعلياً أمام المحكمة الجنائية الدولية من الملف السوداني.
أهمية هذه المحاكمة لا تكمن فقط في كونها أول تجسيد لإرادة العدالة الدولية بشأن دارفور، بل في أنها أرسلت رسالة قوية للضحايا بأن معاناتهم لم تذهب أدراج الرياح، وأن الجرائم الموثقة لن تسقط بالتقادم ولن يطويها النسيان. آلاف القرى التي أحرقت، والمجازر التي وقعت، والنساء اللواتي تعرضن للانتهاكات، وجموع النازحين الذين فقدوا أوطانهم، جميعهم وجدوا في هذه المحاكمة بداية اعتراف دولي بمعاناتهم، وخطوة أولى على طريق المساءلة.
من الناحية القانونية، تؤكد محاكمة كوشيب مبدأً أساسياً في القانون الجنائي الدولي وهو عدم الإفلات من العقاب. هذا المبدأ يتجاوز الاعتبارات السياسية والوقتية ليكرس قاعدة مفادها أن المسؤولية الفردية لا تسقط مهما طال الزمن. صحيح أن مثول كوشيب أمام المحكمة لم يتم إلا بعد خمسة عشر عاماً من صدور أمر توقيفه، إلا أن مجرّد تحقق هذه المحاكمة يكشف أن العدالة الدولية قد تتأخر ولكنها لا تُمحى.
فقد وُجهت إلى كوشيب عشرات التهم بصفته قائداً ميدانياً للجنجويد، أبرزها جرائم قتل واضطهاد وتهجير قسري، وجرائم اغتصاب وتعذيب، إضافة إلى تدمير الممتلكات ونهب القرى في إقليم دارفور خلال الفترة ما بين 2003 و2004. وتندرج هذه الجرائم تحت طائلة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وفقاً لنظام روما الأساسي. هذه التهم لا تكشف فقط حجم الانتهاكات التي وقعت، بل تؤكد أيضاً أن المسؤولية الجنائية لا تقتصر على صانعي القرار السياسيين، وإنما تمتد إلى المنفذين الميدانيين الذين شاركوا بصورة مباشرة في العمليات. وهنا يبرز مبدأ مسؤولية القائد، الذي يجعل من القادة العسكريين مسؤولين عن الجرائم التي يرتكبها مرؤوسوهم إذا كانوا على علم بها أو كان ينبغي أن يعلموا بها ولم يتخذوا ما يلزم لمنعها أو معاقبة مرتكبيها. إن استدعاء هذا المبدأ في قضية كوشيب يعني أن المحكمة لم تنظر إليه فقط كمنفذ للأوامر، بل كقائد يتحمل تبعات ما جرى، مما يرسخ قاعدة مهمة في القانون الدولي الإنساني أن القيادة امتياز لكنها في الوقت نفسه (التزام ومسؤولية).
وإذا نظرنا إلى الحرب المشتعلة اليوم في السودان، نجد أن الجرائم التي وقعت في أبونورة والحصاحيصا وقرى دارفور ومعسكر ابو شوك تكاد تعيد إنتاج ذات النمط الذي واجه بسببه كوشيب المحاكمة، قتل جماعي، تهجير قسري، انتهاكات ضد المدنيين، وحرق للقرى. هذا يوضح أن غياب المساءلة في الماضي مهّد الطريق لعودة ذات الجرائم في الحاضر، وأن ما لم تحسمه العدالة بالأمس عاد ليطارد السودان اليوم بأشكال أبشع.
والمشهد لا يقتصر على القرى المدمرة أو النزوح الجماعي، بل يمتد إلى عمليات قتل تستهدف القيادات على أسس قبلية، كما حدث في مدينة نيالا حينما قُتل الوالي على يد قوات الدعم السريع. هذا النمط من العنف يوضح أن الصراع لم يعد مجرد مواجهة عسكرية، بل تحوّل إلى حرب تحمل بصمات الإبادة والتصفية الجماعية، حيث يصبح الانتماء القبلي أو السياسي سبباً كافياً لإزهاق الأرواح. وهو ما يعيد إلى الأذهان السياق ذاته الذي واجه بسببه كوشيب الاتهام بالاضطهاد العرقي والتهجير القسري، مما يؤكد أن جذور الأزمة ما زالت حاضرة، وأن غياب العدالة سمح للجرائم أن تتطور وتتكاثر.
الدلالات السياسية للمحاكمة لا تقل أهمية عن دلالاتها القانونية. فهي تعيد وضع بقية المطلوبين من المحكمة الجنائية الدولية، وعلى رأسهم الرئيس المخلوع عمر البشير وبعض أركان نظامه، في دائرة الضوء. ورغم أن تسليم هؤلاء ظل رهيناً بالتوازنات الداخلية في السودان والضغوط الإقليمية والدولية، فإن محاكمة كوشيب تضع سوابق جديدة تجعل تجاهل بقية الملفات أمراً بالغ الصعوبة. فالرسالة التي يلتقطها المجتمع الدولي مفادها أن الباب قد فُتح، وأن الخطوة التالية يجب أن تستكمل حلقات العدالة.
على الصعيد السوداني، تكشف المحاكمة حجم الفجوة بين تطلعات الضحايا واستعصاء النخب السياسية على بناء مسار جاد للعدالة الانتقالية. فبدلاً من أن تقود ثورة ديسمبر 2018 إلى عملية شاملة للمحاسبة والمصالحة الوطنية، ظل المشهد أسيراً لحسابات القوى السياسية والعسكرية، مما أبقى العدالة الانتقالية رهينة الشعارات. وهنا تكتسب محاكمة كوشيب بعداً إضافياً، إذ إنها تذكير بأن العدالة لا يمكن أن تكون محل مساومة أو خاضعة للتجاذبات السياسية.
من منظور أوسع، تبرز المحاكمة أيضاً أهمية المحكمة الجنائية الدولية كآلية دولية للردع. ورغم الانتقادات التي توجه لها بأنها انتقائية أو مسيسة، فإنها تظل الأداة الوحيدة القائمة على أساس قانوني دولي، القادرة على تحريك قضايا الجرائم ضد الإنسانية عندما تعجز الأنظمة الوطنية عن القيام بدورها. وفي حالة السودان، أثبتت التجربة أن القضاء الوطني لم يكن مستقلاً بما يكفي لمساءلة المسؤولين عن الجرائم الكبرى، مما جعل تدخل المحكمة الجنائية الدولية ضرورة وليس ترفاً قانونياً.
لكن التحدي الأكبر يبقى في ربط هذه المحاكمة بمشروع أوسع للعدالة داخل السودان. فالمساءلة الدولية مهما بلغت أهميتها لا يمكن أن تكون بديلاً عن العدالة الوطنية. المطلوب هو أن تصبح محاكمة كوشيب مدخلاً لتأسيس ثقافة جديدة في السودان، تقوم على احترام سيادة حكم القانون وإنصاف الضحايا، وبناء مؤسسات قضائية مستقلة قادرة على النظر في الجرائم الكبرى. بذلك فقط يمكن أن تتحول هذه اللحظة إلى حجر أساس لمستقبل مختلف، بدلاً من أن تكون مجرد حدث عابر في مسار طويل من الأزمات.
إنّ الدرس الأبرز من هذه المحاكمة هو أن الإفلات من العقاب لم يعد مضموناً كما كان في الماضي. صحيح أن القوى السياسية والعسكرية قد تتلاعب بالعدالة وتؤجلها، لكن محاكمة كوشيب أوضحت أن هناك سقفاً زمنياً يحد من ذلك، وأن العدالة في نهاية المطاف تجد طريقها. وهو درس يتجاوز السودان إلى بقية مناطق النزاع في العالم، حيث تتكرر الجرائم ضد المدنيين في غياب المساءلة.
في المحصلة، لا تمثل محاكمة علي كوشيب نهاية المطاف، بل هي بداية لمسار طويل ينبغي أن يكتمل باستدعاء بقية المسؤولين ومحاسبتهم. وهي أيضاً امتحان لإرادة السودانيين أنفسهم في أن يجعلوا من هذه الخطوة بداية لإغلاق صفحة الإفلات من العقاب التي أرهقت البلاد لعقود طويلة. فبدون عدالة راسخة، ستظل جراح دارفور وسائر أنحاء السودان مفتوحة، ولن يكون هناك سلام مستدام أو مصالحة حقيقية.