*حسن علي سنهوري
الرؤية الجديدة: زرع بذور السلام
نقدم رؤية جديدة للزراعة السودانية، تتجاوز اعتبار المزارعين مجرد محركات اقتصادية، بل تعيد تصورهم كشركاء أساسيين في “التنمية الشاملة” وبناء السلام. يستند هذا المفهوم إلى التحول الزراعي، الذي يركز على صغار المنتجين لتطوير سبل عيشهم، ومحاربة الفقر، وتحقيق الأمن الغذائي. وهذا يعني تحويل القطاع الزراعي من كونه محركاً للصراعات وانعدام المساواة، إلى ركيزة أساسية لتحقيق السلام الوطني، والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والقدرة على الصمود لجميع السودانيين. تستند هذه الرؤية إلى خمسة أهداف رئيسية.
1) الحد من الفقر وتحسين سبل العيش: إيجاد سبل عيش مستدامة وزيادة دخل الأسر، مع التركيز بشكل خاص على صغار المزارعين والنساء والشباب في المناطق الريفية والمتأثرة بالنزاعات.
2) الأمن الغذائي والتغذوي: إعطاء الأولوية لإنتاج الغذاء المحلي لضمان حصول كافة المواطنين على غذاء كافٍ ومغذٍ، وتعزيز الاكتفاء الذاتي الوطني.
3) الاستدامة البيئية والقدرة على التكيف مع تغير المناخ: تشجيع الممارسات التي تعيد التوازن البيئي، والإدارة المستدامة للموارد المائية، وبناء قدرة القطاع على مواجهة التحديات المناخية.
4) التنمية الإقليمية المتوازنة: معالجة الاختلالات التاريخية عبر ضمان استثمارات عادلة وتخصيص موارد متوازنة في كافة المناطق، خاصة تلك التي عانت من التهميش تاريخياً.
5) العدالة الاجتماعية والشمول: تمكين الفئات المهمشة، وضمان حقوق الأراضي والموارد، وإنشاء مؤسسات شاملة تمنح جميع الأطراف المعنية صوتاً في رسم مستقبلهم.
الركائز الاستراتيجية للرؤية:
تستند الرؤية على خمس ركائز مترابطة، مصممة لترجمة الأهداف إلى أفعال:
1) ربط الزراعة ببناء السلام ورأس المال الاجتماعي: تركز هذه الركيزة على استخدام المبادرات الزراعية كأداة فعالة لبناء السلام. تتضمن الإجراءات الرئيسية تعزيز المشاريع المشتركة التي تجمع بين المجموعات المتنازعة (كالمزارعين والرعاة)، وإحياء آليات حل النزاعات المجتمعية لإدارة الموارد، وضمان التنسيق بين كل الجهات المعنية، كما يتم تطبيق مبدأ “السلام أولاً على جميع التدخلات الزراعية”، لضمان مساهمة التنمية بشكل مباشر في تعزيز التماسك الاجتماعي.
2) تطوير المناطق الزراعية التقليدية المطرية: تعالج هذه الركيزة الإهمال التاريخي للمناطق الأكثر ضعفًا في السودان. وتعطي الأولوية لدعم أصحاب الحيازات الصغيرة في مناطق مثل دارفور وكردفان، من خلال توفير الوصول إلى البذور والأدوات عالية الجودة، وتأمين حقوق حيازة الأراضي، وتعزيز التقنيات الزراعية الذكية مناخيًا، وتصميم خدمات مالية ميسرة.
3) تعزيز الأسواق المحلية: تركز هذه الركيزة على تطوير الأسواق الداخلية، ويشمل ذلك الاستثمار في البنية التحتية الريفية الحيوية كـ “الطرق” و “مرافق التخزين”، وإنشاء أنظمة سوق شفافة بقيادة المجتمع المحلي لضمان أسعار عادلة للمنتجين، ودعم صناعات التصنيع الزراعي صغيرة النطاق لإضافة قيمة محلية.
4) تطوير الأسواق الخارجية: تهدف هذه الركيزة إلى إعادة تموضع السودان استراتيجياً في السوق العالمية، بالانتقال من تصدير المواد الخام إلى تطوير منتجات ذات قيمة مضافة، مثل اللحوم المصنعة والمنتجات البستانية المعبأة. كما ستعزز مبادرات التصدير التي تقودها التعاونيات لضمان احتفاظ المجتمعات المنتجة بالأرباح، بدلاً من أن يستحوذ عليها الوسطاء.
5) تعزيز الحوكمة والأطر المؤسسية: تدعم هذه الركيزة الأساسية التحول بأكمله، وتتضمن إصلاحات شاملة في السياسات والقوانين للقضاء على التحيزات ضد أصحاب الحيازات الصغيرة، وتنفيذ أنظمة تضمن الاستثمار الإقليمي المتوازن، وإنشاء نظام قوي للبيانات والإحصاءات الزراعية للتخطيط المبني على الأدلة، ومكافحة الفساد لتعزيز الشفافية والفعالية.
هل يستطيع السودان تحويل المجالات ذاتها التي شهدت أعمق صراعاته إلى أسس لسلام دائم؟
يرتبط التحول الزراعي في السودان ارتباطاً وثيقاً باحتمالات السلام والاستقرار والتعافي الوطني. لا بد من كسر الحلقة المفرغة تاريخياً، حيث أصبح مصدر الحياة محركاً للصراع. أظهر هذا التحليل أن مجرد إعادة تشغيل المحرك الاقتصادي القديم ليس خياراً، بل هو حتمي. إن ذلك لن يؤدي إلا إلى إعادة تهيئة الظروف للعنف في المستقبل. يجب أن ترتكز استراتيجية تنمية زراعية ناجحة للسودان على مبادئ العدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية، والتنمية الإقليمية المتوازنة. وبالنسبة للمستثمرين وشركاء التنمية، فإن دعم هذا التحول هو أكثر من مجرد استثمار في قطاع اقتصادي واحد؛ إنه استثمار مباشر وضروري في بناء مستقبل أكثر استقراراً وعدلاً وازدهاراً للأمة بأكملها.
*مستشار التنمية الزراعية
بريد الكتروني: saniali2010@gmail.com