عندما يُطلق الرصاص في عنابر المرضى (مستشفى عطبرة ).. حين يبدأ التحالف بأكل نفسه
أفق جديد – وحدة الرصد والتحليل
في مساءٍ دامٍٍ من مساءات السودان الموجوعة ، تحوّل مستشفى عطبرة التعليمي ليل اليوم الإثنين إلى مشهد من الفوضى والرعب ، حين أطلق أفراد من القوات المشتركة النار داخل عنبر الجراحة ، فقتلوا ثلاثة مواطنين وأصابوا ستة آخرين بينهم أحد أفراد الطاقم الطبي . لم يعد للمدينة الهادئة ما يذكّر بسيرتها القديمة ؛ فقد إخترق الرصاص قدس الطب ، وإرتجفت الأرواح في ممرات كانت مخصصة للحياة لا للموت .
شهود العيان تحدثوا عن هلعٍ عمّ المكان ، وصراخٍ إمتزج بأنين الجرحى ، بينما ساد الغضب الشارع بأكمله . تباينت الروايات حول هوية المنفذين ، بين من نسبهم إلى القوات المشتركة ، ومن قال إنهم يتبعون لمجموعة صلاح رصاص . لكن المؤكد أن رصاصهم أصاب قلب الوطن في واحدةٍ من أكثر لحظاته هشاشة
في المقابل ، أصدرت قوات أسود الشمال وهي بدورها ميليشيا جديدة قيد التشكل بياناً نارياً وصفت فيه الحادثة بأنها جريمة بشعة ونتيجة مباشرة لإنهيار الدولة الأخلاقي والأمني ، محذّرة من أن إستمرار مثل هذه التجاوزات سيخرج عن السيطرة ، تحذير يحمل في طيّاته نذر الفوضى ، وكأن البلاد تستعد لمرحلة جديدة من التناحر الميداني .
بشائر الخرطوم .. تهديد بالقنبلة
وقبل يومٍ واحد فقط ، كادت الخرطوم أن تعيش مأساة مشابهة . في مستشفى بشائر بجنوب العاصمة ، هدد جندي من قوات حركة تحرير السودان التي يرأسها قائد القوات المشتركة مني اركو مناوي المنضوية بتفجير المستشفى بقنبلة يدوية ، بعد أن بلغه نبأ وفاة أحد زملائه . هرب الأطباء والمرضى على السواء ، وتعطلت الخدمات ، بينما كانت أصوات الرصاص تُسمع من محيط المستشفى حيث إندلعت إشتباكات بين القوات المشتركة والجيش في منطقة سوق السمك القريبة من المستشفى الذي يخدم منطقة جنوب الخرطوم بدعم من منظمة الصليب الأحمر التي إتخذت قراراً فورياً بتقليص كوادرها العاملة في المستشفى .
كانت الأوامر الصادرة من الفريق أول عبد الفتاح البرهان بسحب جميع التشكيلات العسكرية من الخرطوم قد بدت بلا أثر ، إذ لا تزال الحركات المسلحة والكتائب المتحالفة ترفض الانسحاب ، ما يبقي المرافق المدنية رهائن للخوف والاضطراب .
الميدان والمشفى
تتوالى الحوادث داخل المؤسسات الصحية في وقتٍ تُعلن فيه كل الأطراف أنها تدافع عن الوطن . لكن أي وطنٍ هذا الذي تُنتهك فيه حرمة المستشفيات ويُطلق فيه الرصاص على المرضى والأطباء؟ إن تكرار هذه الإنتهاكات يشير إلى إنهيارٍ أمني عميق ، وإلى غياب سلطة الدولة وسط تغوّل السلاح المنفلت ، وفقاً لما قاله طبيب عامل في مستشفى عطبرة لـ” أفق جديد” وأردف عاشت المستشفى حالة من الرعب والهلع وتقافز المرضى من أسرتهم وبعضهم حالته حرجة ، مشيراً إلى أن ماحدث مساء اليوم يجب أن يكون بمثابة جرس إنذار بما يخبئه المستقبل للشعب السوداني ، وأضاف الطبيب الذي نحتفظ بإسمه لعدم تعريضه للخطر أن إنتشار السلاح والتجول به في المواقع المدنية وداخل المدن سيظل خطراً على الآمنيين..
وتكرار تلك الحوادث يشير إلى أن المستشفيات لم تعد خطوطاً محايدة في زمن الحرب ، بل صارت جبهات متحركة . فالذي كان يُقاتل بالأمس في الميدان بات اليوم يُطلق النار وسط أجهزة التنفس الاصطناعي ، في مشهد يجسّد فشل الدولة في ضبط من سلحتهم باسم السلام .
جذور الإنفلات
القوات المشتركة التي يُتهم أفرادها اليوم بهذه الجرائم ، هي نفسها التي وُقِّعت إتفاقات جوبا للسلام ، ثم أُعيد إنتاجها في ثوبٍ جديد خلال الحرب دون دمجٍ حقيقي أو تأهيلٍ عسكري منضبط ، وفقاً للواء معاش صديق أبو الحسن وقال تحولت هذه التشكيلات إلى جزر منفصلة الولاء داخل جسد الدولة ، بل إلى أدوات نفوذ تُستخدم سياسياً في مواجهة الخصوم . ومع الحرب الحالية ، طبقاً لحديث أبو الحسن لـ” افق جديد” تم تسمينها أكثر فأكثر ، حتى غدت دولةً داخل الدولة ، لا تسئل عن ما تفعل لافتاً إلى أن الطريقة التي تتعامل بها الجهات الرسمية مع تفلتات هذه القوات هي ذات الطريقة التي كان يتم التعامل بها مع الدعم السريع..
ويضيف أبو الحسن بالقول “تكرار هذه الحوادث لا يفضح فقط إنفلات السلاح ، بل يكشف تصدع التحالفات التي قامت على حساب وحدة القيادة . وأخطر ما يلوح في الأفق هو تفكك عنيف لتحالف بورتسودان ، ذلك التحالف الذي كان يمثل الغطاء السياسي والعسكري للحكومة في مواجهة الدعم السريع . فحين تعجز قياداته عن ضبط عناصرها ، وتتقاطع مصالح الميدان مع صراعات القصر ، يصبح الإنهيار مسألة وقت .
تحالف على حافة الهاوية
منذ أشهر ، تتصاعد التوترات داخل معسكر بورتسودان بين قادته السياسيين والعسكريين . ومع تزايد نفوذ الحركات الدارفورية التي ظلت تحتفظ بقواتها خارج بنية الجيش ، تحوّل التحالف إلى لوحة من الشكوك المتبادلة . اليوم، تكرار الحوادث مثل جريمة عطبرة وبشائر ليس سوى عرضٍ جانبيٍّ لإنفجارٍ قادم في صلب التحالف.
في الأثناء وبذات الإتجاه يذهب مصدر سياسي رفيع فضل عدم ذكر إسمه مؤكداً أن تفكك تحالف بورتسودان يعد حتمياً مؤكداً أن تفككه لن يكون هادئاً ، بل سيكون عنيفاً ، لأن القوى المكوّنة له تحمل في داخلها مزيجاً من الولاءات الجهوية والمصالح المتصارعة . ومع غياب مشروع وطني جامع ، سيجد كل جناح نفسه مضطراً للقتال دفاعاً عن سلطته ومناطقه .
نداء أخير قبل الإنفجار
وبدوره يقول اللواء أبو الحسن “لقد تجاوز الأمر حدود الحوادث الفردية إلى مشهدٍٍ عام من الإنفلات الشامل” ، ويزيد محذراً “المجتمع السوداني ، الذي أنهكته الحرب ، بات مهدداً بإنفجار داخلي جديد إن لم تُتخذ إجراءات عاجلة: سحب المليشيات من المدن ، تأمين المؤسسات الطبية ، محاسبة المتورطين ، وإطلاق عملية دمج حقيقية ترد السلاح إلى حضن الدولة”.
إن إستمرار صمت السلطة على جرائم المليشيات هو خيانة صريحة للوطن ، كما جاء في بيان أسود الشمال . وإن كان ما تبقى من القيادة السياسية والعسكرية جاداً في حماية البلاد ، فعليها أن تعيد بسط هيبة القانون قبل أن يُسدل الليل ستاره على ما تبقى من الدولة.
مفترق الدم والنور
تكرار هذه الحوادث لا يعني فقط تدهور الأمن ، بل يقف شاهداً على إنحلال العقد الاجتماعي ذاته . المستشفيات التي كانت رموزاً للرحمة صارت رموزاً للرعب ، والرصاص الذي يُفترض أن يحمي الحدود صار يزرع الموت في قلب المدن .
إن تفكك تحالف بورتسودان ، إن وقع ، لن يكون سوى تتويج لمسارٍ طويل من الغفلة ؛ وحين يحد ث، لن يجد أحدٌ مأمناً من عواقبه . الطريق إلى النجاة واحد : وقف الحرب ، وتوحيد الكلمة ، والعودة إلى مشروع وطني حقيقي يعيد للدولة هيبتها ، وللإنسان السوداني حقه في الحياة دون خوف.
ووفق مراقبين ، فإن السيناريو الأسوأ ليس بعيداً ، إذ إن تصاعد الصدامات داخل التحالف الموالي لبورتسودان سيحوّل الشرق والولايات الشمالية إلى ساحات إقتتال جديدة ، مما يضاعف من معاناة المدنيين الذين يعيشون أصلًا تحت قصف الحرب ونيران الجوع.
في خاتمة المطاف ، لم يعد في وسع البلاد أن تحتمل مزيداً من الدماء. فالتجارب القاسية من دارفور إلى الخرطوم ، ومن كُتم إلى عطبرة ، تثبت أن السلاح لا يحمي وطناً، بل يلتهمه من الداخل . إن تفكك تحالف بورتسودان – مهما بدا بعيدًا – سيكون بداية جولة جديدة من الانهيار، لا رابح فيها سوى الخراب .
لذلك ، كما يقول مصدر سياسي رفيع لـ”أفق جديد”، “ما لم تتجه كل الأطراف إلى وقف الحرب والجلوس على طاولة سلام حقيقي يضمن تفكيك الميليشيات وبناء جيش وطني واحد ، فإن السودان مقبل على إنفجار كبير قد لا يُبقي من الدولة إلا الاسم”.
اليوم ، أكثر من أي وقت مضى، تبدو الدعوة إلى السلام ليست شعاراً، بل نداء نجاة أخير قبل أن يبتلع الجحيم الجميع .