تقدم اخي الشيخ محمد حاج حمد واحقن الدماء، فأنت لها

د. عصام عباس

شهد تاريخ السودان، منذ القرن الخامس عشر وحتى التاسع عشر، أحداثا جساما تستوجب الوقوف عندها والتعلم منها، خصوصا في ما يتعلق بدور الطرق الصوفية ورجال الدين في حقن الدماء وإجراء المصالحات بين الفرقاء.
استدعيت هذا المعنى حين دار بيني وبين صديقي وشيخي الشيخ محمد حاج حمد الجعلي حديث صادق ونابع من القلب عن رغبته في إنهاء مأساة السودانيين وحقن دمائهم، وإعادة الأمن والسلام إلى ربوع الوطن. ويقيني أنه الأقدر على ذلك بما يحمل من حكمة ومهابة ومكانة روحية راسخة في وجدان الناس.

ولكي ندرك أن دور الصوفية في الإصلاح ليس طارئا على تاريخنا، دعونا نرجع إلى بداياتها في السودان، منذ نهايات مملكة علوة المسيحية مرورا بالدولة السنارية.
ففي تلك الفترة، حين تهاوت سوبا وضعفت مملكة علوة، نشأت التحالفات التي مهدت لقيام الدولة السنارية.
فقد بدأت اولي التحالفات بين كبير الجعليين الأمير حميدان وقبائل قحطان الوافدة الي السودان في العام ١٤٧٦ م ( ٨٨١ هجرية) واستطاعوا دخول سوبا وتدميرها ( الخراب الاول) .
في العام ١٥٠٤ م نجح تحالفٍ سياسي وعسكري بين الفونج وعرب القواسمة (الذين عُرف أحفاد زعيمهم عبدالله جماع لاحقاً بالعبدلاب) في انهاء اخر الممالك النوبية المسيحية في السودان وقيام السلطنة الزرقاء.
لكن العلاقة بين الحليفين لم تخلُ من التوتر، حتى وقعت معركة كركوج عام ١٦١١ م، التي انتهت بمقتل الشيخ عجيب المانجلك وتفرّق العبدلاب شمالا حتى دنقلا. تسببت هذه الواقعة في رفع مستوى الاحتقان المجتمعي والانقسام ونشأ اصطفاف حاد الي طرفي الصراع، الفونج من جهة والعبدلاب من جهة اخرى، وبدت نذر حرب جديدة تلوح في الأفق.
هذا السرد التاريخي قصدت به رسم صورة واقعية عن مجتمع السودان انذاك ومستوى تعقيدات المشهد.
في تلك اللحظة الحرجة، هب الشيخ إدريس ود الأرباب — العالم الصوفي الزاهد، وصاحب الكلمة المسموعة — بدور إصلاحي عظيم. لم تمنعه الاصطفافات ولا الانقسامات ولا سيطرة روح الغبن الممزوجة بالكراهية من أن يقود الجهود المضنية ويسعى بكل قوة في الصلح بين الفونج والعبدلاب، ساعيا لحقن الدماء. وبعد جهودٍ طويلة ومشاورات شاقة، استطاع الوصول الى صلح عرف بين الناس “بصلح الرحيمة” في العام ١٦١٢ م، فعادت العلاقات بين الشعب ( الشعوب) إلى صفائها، واستتب السلام في البلاد واستقرت الدولة السنارية عقودا حتى سقوطها في القرن التاسع عشر.
إن هذه الواقعة ليست إلا مثالا واحداً من سجلٍ طويلٍ للصوفية في السودان، سجلٍ زاخر بالمواقف النبيلة التي أطفأت نيران الفتن وحقنت الدماء وصانت وحدة الناس.

واليوم، ونحن نعيش مرحلة هي الأخطر في تاريخ السودان الحديث، تتجددت الحاجة إلى ذات الروح الصوفية: روح الصفح، والزهد، والإصلاح، والتجرد لله وللوطن. فالتصوف ليس مجرد طريق للعبادة، بل هو وجدان جماعي يربط الناس بالمحبة، ويهذب النفوس، ويعيد للقلوب سكينتها، ويطهرها من افات الكراهية والغل والانتقام.
إن مبادئ التصوف — التسامح، والعفو، والكرم، وعدم الانتصار للذات — قادرة على أن تكون أساسا لمصالحة وطنية شاملة، إذا ما ترجمت عمليا في خطوات تجمع الطرق الصوفية والقيادات الأهلية وجميع محبي السلام، برعاية الشيخ محمد حاج حمد وإخوانه من العلماء والعارفين، لتكون مظلة لحقن الدماء وإعادة بناء الثقة بين أبناء الوطن الواحد.

اختم بالقول ان الشيخ محمد حاج حمد الجعلي لا يمثل جهة سياسية أو جهوية، بل يمثل وجدان الأمة السودانية وضميرها الديني والأخلاقي. صوته صوت الوحدة والرحمة، ووجهه وجه السودان حين يكون في أبهى صور التسامح والتجرد.
ومن هنا، وباسم جميع محبي السلام اقول لشيخنا الجعلي المثنى تقدم لتحقن دماء السودانيين وتمسح دموع الأطفال وتسكت انين الارامل وتزيل جزع الامهات وتسند كتف الضعفاء ، فانت الاقدر على ذلك والاجدر بفعله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى