المتحدثة السابقة باسم الخارجية الأمريكية تكتب : الأزمة الإنسانية في السودان تهدد المصالح الإقليمية الأمريكية

بقلم: هيذر نويرت المتحدثة السابقة باسم وزارة الخارجية الأمريكية ووكيلة الوزارة للدبلوماسية العامة والشؤون العامة

دعا الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى إعادة تقييم استثمارات الولايات المتحدة في برامج المساعدات الخارجية لضمان توافقها مع المصالح الوطنية. وهذه المراجعة، التي تُعد ضرورية في كل مرحلة، لا تقلل من أهمية المساعدات الإنسانية، بل تؤكد أن هذا الدور ليس مجرد عمل خيري، وإنما يمثل أداة استراتيجية ذكية تخدم الأمن القومي الأمريكي. ففي المناطق التي تؤجج فيها الفوضى التطرف، وتزعزع الاستقرار الإقليمي، وتعيق التجارة الدولية، يظل الاستثمار الأمريكي في الإغاثة الإنسانية وسيلة فعّالة للحفاظ على التوازن ومنع الأزمات من التمدد.

في السودان، الذي يعاني من حرب طاحنة منذ أكثر من عامين، تشير تقارير مستقلة إلى أن عدد القتلى قد تجاوز 150 ألف شخص، فيما أصبح عدد النازحين داخليًا وخارجيًا هو الأكبر في العالم، متجاوزًا أزمات غزة وأوكرانيا. ووفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فقد أجبر الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أكثر من 12 مليون شخص على الفرار من ديارهم، ليصبح كل نازح امرأة أو طفل أو أسرة رمزًا لمأساة إنسانية تتجاوز الحدود الوطنية وتُفاقم هشاشة الإقليم بأكمله.

يحذر برنامج الغذاء العالمي من أن السودان على أعتاب أسوأ أزمة جوع في التاريخ الحديث، إذ يواجه أكثر من 25 مليون شخص انعدامًا حادًا للأمن الغذائي، فيما تهدد المجاعة عشر مناطق في البلاد، حيث يُضطر الأطفال في بعض المناطق لتناول التبن أو علف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة.

تحولت مدينة الفاشر في إقليم دارفور إلى أكثر جبهات الحرب اشتعالًا، إذ دفعت المعارك المتواصلة مئات الآلاف إلى النزوح القسري، بينما يعيش من تبقّى وسط حصار غذائي خانق وقصف متكرر. هذا الحجم من العنف والمجاعة، إذا لم يُكبح، سيقود إلى موجات جديدة من الهجرة، وتوسّع في نشاط الجماعات المتطرفة، وامتداد للصراع إلى دول الجوار، وهو ما يُهدد مباشرة المصالح الأمنية الأمريكية ويُضعف قدرة الحلفاء على احتواء تداعياته.

قبل أكثر من عقدين، كنت شاهدة على مأساة السودان حين غطّيتُ كصحفية في قناة فوكس نيوز الإبادة الجماعية في دارفور. آنذاك، كانت ميليشيا الجنجويد تجوب القرى على ظهور الخيل، تقتل الرجال والأولاد بالسواطير وتحرق القرى بعد نهبها واغتصاب نسائها. وسط تلك الفوضى، أدركت الدور الفريد الذي يمكن أن تلعبه القيادة الأمريكية في منع تمدد الأزمات. لقد ساعدت حينها القيادة الأمريكية القوية في احتواء الفوضى، ومنعت المنطقة من الانهيار الكامل، ويمكن للولايات المتحدة أن تفعل الأمر ذاته اليوم.

تستحق إدارة ترامب التقدير على الجهود التي بذلتها في محاولة إنهاء الحرب السودانية، عبر التواصل مع طرفي الصراع، والتعاون مع الدول المجاورة، وتنسيق الجهود مع المنظمات الدولية، إضافة إلى اجتماعات الرباعية السودانية التي تضم السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة. كما أن الضغوط الأمريكية لتأمين إيصال المساعدات إلى الفاشر ومناطق النزاع الأخرى كانت خطوة في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك، فإن الأزمة في السودان لم تعد إنسانية فحسب، بل أصبحت اختبارًا للإرادة الأمريكية في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي.

وهنا تبرز أهمية استمرار الدور القيادي الأمريكي ودعم المنظمات الدولية مثل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وبرنامج الغذاء العالمي، إذ تُعد هذه المؤسسات قادرة على الوصول إلى الفئات الأشد ضعفًا في مناطق لا تستطيع الحكومات ولا حتى الجيوش الوصول إليها. إن تمويل هذه الجهود ليس مجرد مساعدة إنسانية، بل هو استثمار في أمن الولايات المتحدة وحلفائها، يقي من تمدد قوى معادية ويساهم في استقرار البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

أتفهم تحفظات بعض المحافظين داخل الولايات المتحدة بشأن الإنفاق على المساعدات الدولية، خصوصًا في ظلّ التحديات الداخلية التي تواجه البلاد. ومع ذلك، فإن مصالح أمريكا في المنطقة تتجاوز حدود التعاطف الإنساني، فهي تشمل أمن البحر الأحمر، ومكافحة النفوذ الروسي والصيني المتزايد، والتصدي للإرهاب العابر للحدود.

ففي جيبوتي، تمتلك الولايات المتحدة قاعدة “ليمونييه”، وهي القاعدة العسكرية الدائمة الوحيدة في القارة الأفريقية، ومنها تنطلق العمليات لمكافحة شبكات القاعدة وحركة الشباب. كما يعتمد الأمن الإقليمي على التعاون مع دول مثل إثيوبيا وكينيا وأوغندا، وهي شركاء مهمون في تبادل المعلومات الاستخباراتية والعمليات المشتركة.

إن سياسة “أمريكا أولاً” التي تبنّاها الرئيس ترامب لا تعني الانعزال، بل يمكن أن تشمل كما أثبتت تجربته استثمارات استراتيجية في مناطق النزاع، لمنع توسّع الأزمات التي تهدد الأمن القومي الأمريكي من بعيد.

نقلا عن صحيفة واشنطن إكزامينر

Exit mobile version