الذهب الأسود يتحول إلى سمّ قاتل.. أطفال بلا عيون.. وأمهات يدفنّ أحلامهن: لعنة النفط في جنوب السودان
بقلم سيمون ماركس وأوكيتش فرانسيس
في عام 2011، تلقت شركة بتروناس تحذيرات بشأن احتمال تسبّب آبارها النفطية في جنوب السودان بظهور تشوّهات وأمراض خلقية بين السكان. حينها، تدخلت مرسيدس-بنز، الشريك التجاري لبتروناس في فريق فورمولا 1، وسعت عبر اجتماعات متكررة إلى حثّ الشركة على تقديم تفسيرات ومعالجة المخاطر. ومع ذلك، وبعد مرور أكثر من عقدٍ كامل، ما زال أطفال جنوب السودان يُولَدون بتشوّهات خطيرة.
في ظهيرةٍ خانقة من يونيو، داخل مستشفى مقاطعة كوخ، استلقت مجموعة من الأمهات على حصائر مهترئة، يحتضنّ أطفالهن بأذرعٍ واهنة وعيونٍ غارقة في التعب والذهول. كانت إحداهن تحدق في الفراغ — قبل يومٍ فقط، فقدت جنينها في منتصف الحمل. وعلى الجانب الآخر، تتمدد امرأة أخرى تحت وطأة الألم، تضع يديها على بطنها خوفًا من أن تلقى المصير ذاته.
في هذا المستشفى المتهالك، وسط قلب منطقة النفط في جنوب السودان، أصبحت حالات الإجهاض والتشوهات الخلقية مشهدًا مألوفًا، كما يؤكد الطاقم الطبي. أما الأهالي، فيُحمّلون صناعة النفط المسؤولية، بينما تلوح في الأفق مداخن الحقول وخزاناتها العملاقة، رمزًا لثروةٍ لا تعود عليهم سوى بالمرض والفقد.
في فبراير الماضي، وضعت نياخور مات ييت، وهي أم في الثلاثينيات، طفلًا لم يكتمل نمو جمجمته ولا دماغه، كما يروي مدير المستشفى سيمون كوتي. مات الرضيع بين ذراعيها بعد دقائق من الولادة. وبعد أسابيع فقط، أنجبت امرأة أخرى طفلًا بلا أطراف — لم يعش سوى ساعاتٍ معدودة.
في مقاطعة كوش الفقيرة والمنسية في جنوب السودان، لم يعد منظر الأطفال المولودين بتشوّهات خلقية أمرًا نادرًا.
يقول الطبيب سيمون كوتي بأسى: “قد تجد طفلًا يولد أعمى أو بلا عينين، وأحيانًا بلا ساقين أو ذراعين. في معظم الحالات لا يُبلّغ عنها.” حتى عمته أنجبت طفلًا بلا عينين قبل أعوام.
أما مياه الآبار المحيطة بالمستشفى، فهي مالحة ومرّة إلى درجة جعلت الطاقم الطبي يتوقف عن استخدامها في علاج المرضى.
الحياة في كوش قاسية: معدل وفيات الأطفال مرتفع، وسوء التغذية متفشٍ، وفيضانات موسم الأمطار تجلب معها الكوليرا، لكن أكثر ما يخيف العائلات هناك هو ولادة أطفال مشوّهين.
على مدى نحو عقدين من الزمن، دمّرت هذه التشوّهات حياة عائلات تقطن قرب آبار النفط التابعة لتحالف تقوده شركة بتروناس الماليزية، إحدى أكبر شركات النفط والغاز في العالم.
تحقيق موسّع أجرته بلومبرغ نيوز استند إلى وثائق رسمية ومقابلات مع مسؤولي صحة وعلماء مياه وسكان محليين وعاملين إنسانيين، كشف أن مصادر مياه الشرب في القرى الواقعة على بُعد نحو 20 ميلاً من مواقع الإنتاج ملوثة بمعادن ثقيلة تتجاوز المعايير الدولية بأضعاف.
ورغم عدم وجود إثبات قاطع أو دعاوى قضائية ضد الشركات النفطية العاملة في المنطقة – التي تفتقر لأي نظام قانوني فعّال – فإن الباحثين الذين فحصوا القضية يؤكدون أن الأدلة تشير بوضوح إلى ارتباط محتمل بين تلوّث المياه وتفشي العيوب الخلقية.
يصعب الحصول على بيانات دقيقة حول حجم الكارثة الصحية في مناطق النفط بجنوب السودان، إذ نادرًا ما تُوثق الحالات في القرى النائية. ومع ذلك، تمكنت منظمة “سود إنفايرونمنتال إيجنسي” المحلية من تسجيل 144 حالة تشوّه خلقي في ولاية الوحدة – حيث تقع مقاطعة كوش – بين يناير 2021 وأبريل 2022، وفقًا لأحدث البيانات المتوفرة.
خلال زيارة ميدانية استمرت أسبوعًا هذا العام، أجرت وكالة بلومبرغ مقابلات مع عائلات 11 طفلًا وُلدوا بتشوّهات منذ عام 2021، ومع الأطباء الذين أشرفوا على علاجهم، لتكشف عن أزمة إنسانية تتفاقم بصمت.
الدمار الذي خلّفته صناعة النفط في جنوب السودان يذكّر بكوارث مشابهة في أنحاء أفريقيا:
من تسرّبات النفط المزمنة في دلتا النيجر بنيجيريا، إلى المناجم المهجورة في جنوب أفريقيا، وصولًا إلى انهيار سد مخلفات التعدين في زامبيا مطلع هذا العام.
تُحمّل منظمات بيئية شركات النفط العاملة في جنوب السودان مسؤولية تلويث مصادر المياه التي يعتمد عليها أكثر من 600 ألف شخص — أي نحو 5% من سكان البلاد — بحسب دراسة أعدتها منظمة ألمانية غير حكومية تابعت القضية لسنوات.
ويؤكد مسؤولون محليون وخبراء بيئة أن عدد الأطفال المولودين بتشوّهات في كوش ازداد بشكل ملحوظ منذ بدء إنتاج النفط عام 2006، وأن الأزمة تتفاقم مع مرور الوقت.
يقول الطبيب سيمون كوتي: “لقد رأيت بنفسي الزيادة الواضحة في الحالات. كبار السن يتحدثون عن زمن لم تكن فيه هذه التشوّهات موجودة.”
في المقابل، ردّت شركة بتروناس الماليزية — المشغّل الأكبر لحقل النفط في كوش — ببيان مقتضب من ثلاث فقرات على قائمة تضمنت 24 سؤالًا من بلومبرغ.
لم يتناول الرد بشكل مباشر مسألة التشوّهات الخلقية أو الأضرار البيئية، بل اكتفى بالتأكيد على أن عمليات الشركة جرت وفق القوانين والمعايير المحلية، وأنها “تعاونت مع السلطات المختصة لمعالجة أي قضايا عبر القنوات القانونية”.
كما أشارت بتروناس إلى أنها أطلقت برامج للمسؤولية الاجتماعية لدعم المجتمعات المحلية، مضيفة أن أنشطتها في البلاد انتهت رسميًا في 1 أكتوبر 2024، بعد انسحاب شركتها الفرعية وبيع حصتها البالغة 40% في الكونسورتيوم النفطي العامل بمقاطعة كوش.
كانت شركة بتروناس الماليزية على درايةٍ بارتفاع معدلات العيوب الخِلقية في مناطق إنتاج النفط بجنوب السودان منذ عام 2011 على الأقل، حين التقت لأول مرة بالمنظمة الألمانية غير الربحية “ساين أوف هوب” (Sign of Hope)، التي بدأت حينها بتوثيق التلوث وإطلاق حملات للتحذير من مخاطره.
خلال السنوات التالية، أجرت المنظمة وعدة جهات مستقلة اختبارات متكرّرة كشفت عن مستويات مرتفعة من الرصاص والمعادن الثقيلة في مياه الشرب، بالإضافة إلى تركيزات عالية من الرصاص في شعر السكان المحليين — وهي مؤشرات على تلوث بيئي خطير.
لكن بتروناس لم تُجب على الأسئلة المتعلقة بعلمها المسبق بالتلوث أو مسؤوليتها المحتملة عن التشوهات الخِلقية في المنطقة.
بلغت القضية ذروتها في نوفمبر 2015، عندما عرض مؤسس “ساين أوف هوب” كلاوس شتيغليتز نتائج أبحاثه أمام مسؤولين من وزارة النفط في جنوب السودان، وأعضاء من الكونسورتيوم الذي تقوده بتروناس، إضافة إلى ممثلين من شركة مرسيدس-بنز AG، التي رتّبت الاجتماع في شتوتغارت بحكم شراكتها الاستراتيجية مع بتروناس في فريق الفورمولا 1 – وهي شراكة تُقدّر قيمتها بنحو 70 مليون دولار سنويًا، بحسب مصادر مطلعة.
ورفضت مرسيدس التعليق على تفاصيل تلك الشراكة.
خلال الاجتماع، وصفت إيمي سوهاردي، رئيسة اتحاد الشركات الذي تقوده بتروناس، تقارير شتيغليتز بأنها “ادعاءات مسيئة وغير مثبتة”، وفقًا لمحضر رسمي من وزارة النفط اطلعت عليه بلومبرغ.
في المقابل، هاجم هومون تشول دينغ، مدير الصحة والسلامة والبيئة في الوزارة، المنظمة الألمانية متهمًا إياها بتهديد الأمن القومي، وأصدر أمرًا رسميًا بوقف حملتها ضد شركات النفط، رغم أنها منظمة صغيرة تموّلها الحكومة الألمانية.
يقول شتيغليتز، الذي حدد بنفسه تسربات نفطية في منشآت معالجة الخام بمقاطعة كوش في فبراير 2015، إن الضغوط على منظمته ازدادت بعد الاجتماع، لكن الأدلة على التلوث كانت “واضحة في كل مكان”.
وفي اتصال هاتفي حديث من جوبا، رفض دينغ التعليق على الحادثة، قائلاً: “لا أتحدث إلى الصحفيين”. كما لم ترد وزارة النفط ولا رئاسة جنوب السودان على الأسئلة التفصيلية التي وجهتها بلومبرغ بشأن الحادثة.
أما مرسيدس-بنز، فقد تأكد لاحقًا أن اثنين من مسؤوليها المعنيين بحقوق الإنسان والاستدامة ساعدا في ترتيب الاجتماع، وهو تفصيل لم يُكشف عنه من قبل، ما يسلّط الضوء على تورط غير مباشر للشركة الألمانية .
قال متحدث باسم شركة مرسيدس-بنز إن الشركة “عملت مرارًا على تسهيل قنوات التواصل المباشر بين الأطراف المعنية، بما في ذلك شركة بتروناس ومنظمة ’ساين أوف هوب‘ غير الحكومية، في محاولة لدعم الحوار والسعي نحو حل ودي يرضي جميع الأطراف”.
وأضاف المتحدث أن بتروناس “قدمت لنا معلومات موثوقة تشير إلى أنها بذلت جهودًا خلال السنوات الأخيرة لتعزيز إجراءات العناية الواجبة بحقوق الإنسان، وتقييم الأوضاع الميدانية وتحسينها”.
وتشير مرسيدس في موقعها الرسمي إلى أنها تتحقق عند اختيار شركائها التجاريين من “مدى امتثالهم للقانون والتزامهم بالمبادئ الأخلاقية”، موضحة أن “كافة الشركاء الحاليين والمحتملين يخضعون لاختبارات نزاهة قائمة على تحليل المخاطر، بهدف الكشف المبكر عن أي تجاوزات محتملة في مجال النزاهة”. وتؤكد الشركة أنها “تُراجع بانتظام آليات العناية الواجبة والمراقبة، وتحتفظ بحق إنهاء التعاون أو عملية الاختيار في حال عدم الالتزام بالمعايير المحددة”.
لكن، ورغم هذه المعايير المعلنة، عبّر كلاوس ستيغليتز عن خيبة أمله من موقف الشركة خلال اجتماع شتوتغارت، قائلاً في حديث لـ”بلومبرغ”: “كنت أتوقع منهم أن يتخذوا موقفًا واضحًا، أن يدينوا ما يحدث ويتوقفوا عن دعم بتروناس، لكنهم لم يفعلوا”.
في ضواحي مدينة كوش، يقول مسؤولون محليون وعلماء يعملون مع منظمات غير حكومية إن عدد المواليد المصابين بعيوب خلقية في المقاطعة ارتفع بشكل ملحوظ منذ بدء إنتاج النفط عام 2006.
وعلى مشارف البلدة، تمتد مساحات شاسعة من الأراضي الرطبة، تكسوها نباتات خضراء زاهية وتتناثر فوقها الطيور، فيما تنتشر آبار النفط وسط السهول الفيضية الزرقاء العميقة. تؤدي هذه الأراضي دورًا بيئيًا محوريًا، إذ تعمل كإسفنجة طبيعية تُنظّم تدفق المياه نحو نهر النيل الأبيض، وتُرشّحها من الملوثات والرواسب، لتشكّل ما يشبه الكلية البيئية التي تحفظ توازن الحياة في المنطقة.
في سبعينيات القرن الماضي، اكتشفت شركة شيفرون النفط في منطقة تُعرف اليوم باسم القطاع 5أ، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من الاهتمام الدولي بثروات جنوب السودان. وفي عام 1997، شكّلت شركة بتروناس الماليزية تحالفًا يضم شركة لوندين أويل السويدية، وشركة أو إم في إكسبلوريشن النمساوية، إلى جانب شركة سودابت الحكومية السودانية – التي تغيّر اسمها لاحقًا إلى نايلبت – من أجل استكشاف المنطقة.
ورغم الطلبات المتكررة، لم ترد نايلبت ولا شركة النفط والغاز الطبيعي الهندية، العضو الحالي في التحالف، على طلبات التعليق.
وقال متحدث باسم لوندين إن الشركة باعت حصتها في الحقل إلى بتروناس عام 2003، أي قبل بدء عمليات الاستخراج، رافضًا الإدلاء بملاحظات حول أي نشاط لاحق. أما شركة أو إم في، فذكرت أنها كانت مساهمًا أقلية حتى العام نفسه، وأضافت في بيانها: “كان قرار الانسحاب من بلد تمزقه الحرب الأهلية وتحيط به إشكالات أخلاقية خطوة في الاتجاه الصحيح من وجهة نظرنا”.
ومنذ مطلع الألفية، بدأت منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوقية أخرى بتوثيق انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في السودان، وانتقدت بشدة دور الشركات النفطية الأجنبية، من بينها أو إم في. وردّت الأخيرة بالقول إن “حقوق الإنسان تمثل قيمة عالمية بالنسبة لنا”، مؤكدة أنها أدانت الانتهاكات المزعومة، وأن المخاطر الأمنية دفعتها في عام 2002 إلى تعليق أنشطة الاستكشاف في المنطقة.
في تلك الفترة، كانت مقاطعة كوش تخضع رسميًا لسيطرة الحكومة السودانية، في ظل تصاعد المواجهات مع الجماعات المتمردة. ومع ذلك، واصل التحالف نشاطه بوتيرة متسارعة، مستوردًا المعدات اللازمة لحفر نحو 30 بئرًا نفطية في المنطقة.
وتنتشر حول كوش مساحات واسعة من الأراضي الرطبة والسهول الفيضية، التي تعمل كإسفنجة طبيعية تمتص مياه الأمطار وتساعد في استقرار تدفقها نحو نهر النيل الأبيض، كما تُصفّي الملوثات والرواسب، لتعمل بمثابة كلية طبيعية للنظام البيئي في المنطقة.
لكن، ومع بدء عمليات الحفر، ظهرت آثار بيئية مدمّرة. فعلى الطريق بين كوش ومنشآت شركة SPOC النفطية قرب قرية ريير، يمكن رؤية خزانات مدمّرة ومناطق ملوثة. وخلال موسم الأمطار، تغمر المياه الطريق، فيما تنساب الملوثات من حفر الصرف التابعة لمواقع النفط نحو الحقول المجاورة.
وفي عام 2006، كان التحالف – الذي أُعيدت تسميته بعد استقلال جنوب السودان ليصبح شركة سود بتروليوم أوبريتينغ (SPOC) – قد بدأ رسميًا عمليات الاستخراج. وكان النفط آنذاك أحد أبرز أسباب تفاقم الصراع الأهلي في البلاد. ولتأمين المناطق المحيطة بالقطاع 5أ، شنّت الحكومة السودانية حملة عسكرية شرسة، أسفرت عن مقتل مدنيين على يد الجيش والميليشيات المتحالفة معه، وفقًا لمدّعين سويديين يتهمون مسؤولين تنفيذيين في شركة لوندين أويل بالتواطؤ مع نظام الرئيس السابق عمر البشير لتأمين امتيازات النفط عبر “تطهير المنطقة”.
ونفت لوندين بشدة هذه الاتهامات، وأكد متحدث باسمها أن الشركة “تتعامل مع القضية بثقة تامة في براءتها”. ولا تزال المحاكمة مستمرة، ومن المتوقع صدور الحكم النهائي في العام المقبل.
بدأ استخراج النفط في مقاطعة كوش عام 2006، قبل خمس سنوات من إعلان استقلال جنوب السودان، وسرعان ما لاحظ السكان المحليون تغيرًا في طعم المياه ولونها.
يقول باحثون في علوم المياه ومسؤولون محليون إن المياه الناتجة عن عملية الاستخراج – والمعروفة باسم “المياه المُنتَجة” – تحتوي على مزيج من الزرنيخ والراديوم والأملاح والمعادن الثقيلة، إلى جانب مواد كيميائية تُستخدم لتسهيل فصل النفط الخام. ومع مرور الوقت، تسربت هذه الملوثات إلى طبقات المياه الجوفية، ما جعلها غير صالحة للشرب أو الاستخدام اليومي.
كيف ينتشر التلوث النفطي في كوش
وفقًا لأفضل الممارسات العالمية، يُفترض إعادة حقن المياه المنتجة – وهي مزيج سام من المعادن والهيدروكربونات والملح وسوائل الحفر – في أعماق الأرض بعيدًا عن مصادر المياه.
لكن في كوش، لجأ الكونسورتيوم النفطي إلى تخزين هذه المياه في حفر سطحية ضخمة، غير محمية بما يكفي، الأمر الذي أدى إلى تسربها ببطء إلى التربة والمياه المحيطة. ومع تفشي الفقر، عمد بعض السكان المحليين إلى نزع الأغطية البلاستيكية الواقية من هذه الحفر لاستخدامها في تسقيف منازلهم، مما زاد من احتمالات التسرب بشكل خطير.
ومع حلول موسم الفيضانات السنوي، باتت المشكلة أكثر تعقيدًا. فالحفر المليئة بالمياه السامة تفيض على ضفافها، لتغمر آلاف الأمتار المكعبة من النفايات الكيميائية الجداول والبرك والسهول الفيضية المجاورة.
في أكتوبر الجاري، وأثناء اجتياح فيضانات مفاجئة لمقاطعة كوش، قام نواب في البرلمان ومسؤولون من شركة النفط الحكومية بزيارة حقول النفط للتحقيق في المخاوف المتزايدة حول تلوث المياه وارتفاع معدل وفيات الأمهات، بحسب تقرير بثته هيئة إذاعة جنوب السودان. وقالت فيكتوريا بول، مديرة التنمية المجتمعية بوزارة النفط:
“تحدثنا إلى الأهالي ووعدناهم بأن الحكومة والشركات ستتعامل مع معظم هذه التحديات بشكل عاجل”.
يمتد خط أنابيب من موقع الإنتاج الرئيسي إلى حفرة صرف ضخمة بالقرب من منشأة النفط، إلا أن مسؤولين محليين يؤكدون أن الأنابيب مهترئة وتُسرّب المواد السامة في بعض المواقع.
وبحسب الخبراء، فإن شركات النفط مطالبة بتطبيق إجراءات صارمة لمنع مثل هذه الكوارث، بما في ذلك صيانة الحفر باستمرار واستخدام تقنيات الترشيح المتقدمة لضمان عدم تسرب الملوثات إلى النظام البيئي.
بدأت الإشارات الأولى للأزمة في عام 2008، حين تلقى كلاوس ستيغليتز، مؤسس منظمة “ساين أوف هوب” الألمانية، شكاوى من قرويين تحدثوا عن تقيؤ الأطفال بعد شرب المياه من المضخات العامة، ونفوق الماشية في المناطق القريبة من حقول النفط.
ويقول جيمس توت، مدير الصحة في مقاطعة كوش، إن هذه الشكاوى كانت تُرفع إلى السلطات الصحية المحلية، ومنها إلى شركة SPOC المشغّلة، التي أنكرت مرارًا وجود أي علاقة بين النفط والأمراض أو التشوهات الخلقية، رغم شهادات السكان والأطباء المحليين.
لم تُعلّق بتروناس على أي من الشكاوى الفردية، لكن مع استمرار غياب الاستجابة الرسمية، أجرت منظمة ساين أوف هوب دراستين علميتين خضعتا لمراجعة أكاديمية مستقلة في عامي 2014 و2016، خلصتا إلى أن مياه الآبار في كوش ملوثة وأن السكان القاطنين بالقرب من مواقع الإنتاج تعرضوا لمعادن ثقيلة، أبرزها الرصاص والباريوم.
وفي عام 2014، كشفت دراسة شاركت فيها شركة المياه الأفريقية وجامعة جوبا ومنظمة ساين أوف هوب أن طبقة المياه الجوفية العليا في كوش “ملوثة بمياه مالحة تتسرب ببطء من عمليات إنتاج النفط الخام”، استنادًا إلى 90 اختبارًا ميدانيًا في 76 موقعًا محيطًا بمنشآت النفط.
في العام التالي، أجرت منظمة “ساين أوف هوب” دراسة علمية لتحليل عينات من شعر السكان في المناطق المحيطة بالبلوك 5A، حيث أظهرت النتائج مستويات مرتفعة بشكل خطير من الرصاص والباريوم، وهما عنصران سامّان يرتبطان بزيادة خطر التشوهات الخَلقية وارتفاع ضغط الدم ومشكلات في التنفس.
وبيّنت الدراسة أن تركيز الرصاص يزداد كلما اقتربت التجمعات السكانية من حقول النفط، إذ بلغ معدل تركيزه في عينات شعر سكان منطقة كوش ما يقارب خمسة عشر ضعف المعدل المسجّل في دول أوروبية مثل ألمانيا وبولندا.
وبحسب تقديرات المنظمة، فإن صناعة النفط في جنوب السودان أطلقت بين عامي 1999 و2020 نحو 8.3 مليون طن من الأملاح، و7.9 مليار لتر من سوائل الحفر الملوثة بمعادن ثقيلة كالرصاص والنيكل والكادميوم، إضافة إلى ستة ملايين لتر من النفط الخام تسربت إلى التربة.
مع بزوغ الفجر على أطراف بلدة كوش، يشتكي الرعاة من نفوق ماشيتهم بعد شربها من مصادر مياه ملوثة، بينما يقف المركز الصحي في قرية ريير مغلقًا في منتصف يوم عمل بسبب نقص التمويل والأدوية، مما يجبر مئات السكان على قطع مسافات تصل إلى 25 كيلومترًا سيرًا على الأقدام نحو مدينة كوش لتلقي العلاج في أقرب منشأة عاملة.
وفي عام 2010، أعلنت شركة مرسيدس-بنز عن شراكة تقنية مع شركة بتروناس ضمن فريقها في الفورمولا 1، حيث وصف المدير التنفيذي للفريق، توتو وولف، الشركة الماليزية بأنها “جزء من عائلة مرسيدس”، إذ توفر بتروناس للفريق الوقود ومواد التشحيم ومهندسين متخصصين على الحلبة.
قال شتِغليتز: “كان لمرسيدس سمعة مرموقة في ألمانيا، لذلك اعتقدنا أنها ستكون مفتاحًا لإحداث فرق لصالح سكان جنوب السودان”.
وفي مارس/آذار من العام نفسه، كتب شتغليتز إلى الرئيس التنفيذي آنذاك ديتر زيتشه، مقترحًا فتح حوار مع بتروناس بشأن “الحالات المرضية المتكررة والوفيات” بين سكان مقاطعة كوش، نتيجة التلوث النفطي. وبعد أشهر، دعت مرسيدس ممثلين من الكونسورتيوم النفطي الذي تقوده بتروناس للاجتماع مع منظمة “ساين أوف هوب”، وفقًا لمراسلات اطلعت عليها بلومبرغ.
وفي رسالة إلكترونية بتاريخ مارس/آذار 2011، أعرب مسؤول رفيع في مرسيدس عن “قلق عميق” من عدم تحقيق “تحسينات جوهرية” في الوضع البيئي المحيط بالمنشآت النفطية، محذرًا من أن الهدف المعلن “بات في خطر كبير”.
وفي نهاية 2011، اقترحت منظمة “ساين أوف هوب” إطلاق شراكة بين بتروناس ووكالة التعاون الإنمائي الألمانية GIZ لتنقية المياه الملوثة، وأجرت مناقشات أولية في 2012، لكن المشروع لم يرَ النور “بسبب غياب الدعم”، وفقًا لشتغليتز. وامتنعت GIZ عن التعليق.
وبعد أعوام من الجهود المحدودة، نظّمت مرسيدس اجتماعًا في شتوتغارت عام 2015 ضم ممثلين من المنظمة، ومسؤولين من جنوب السودان، ومن شركة النفط SPOC، إلا أن الأجواء كانت مشحونة منذ اللحظة الأولى. وعندما صرّح أحد المسؤولين الجنوب سودانيين بأنه “يشكل تهديدًا للأمن القومي”، أدرك شتغليتز أن حملته قد وصلت إلى طريق مسدود.
لاحقًا، في أمسية من ذلك اليوم، وخلال لقاء في مطعم محلي يقدم شرائح اللحم، روى دينغ — الذي كان يجلس مع أحد كبار التنفيذيين في مرسيدس — حادثة مقتل صحفي جنوب سوداني بالرصاص في شوارع جوبا، قبل أن يعلّق بعبارةٍ مقتضبة: “مع أسف رئيسنا الشديد”، بحسب ما نقل شتغليتز.
وبعد اجتماع أخير في أبريل/نيسان 2017، قرر شتغليتز إنهاء حملته، ولم يعد إلى جنوب السودان منذ ذلك الحين. وامتنعت مرسيدس ودينغ عن الرد على الأسئلة المتعلقة بذلك الاجتماع.
في عام 2019، حملت نياشيانيا دووث بطفلها الأول بعد سنوات من المعاناة وعدم الاستقرار. كانت قد أمضت وقتًا طويلًا في أحد مخيمات اللاجئين قبل أن تعود إلى مسقط رأسها في مقاطعة كوش عام 2018.
قبل حملها، كانت دووث تجمع المياه من جدول يبعد نحو 16 كيلومترًا عن منشآت شركة بتروناس. تقول إنها كانت تلاحظ طبقة زيتية حمراء تطفو على السطح، فيما كان طعم الماء مالحًا، فكانت تضطر لاستخدام أكياس الكلور وهيبوكلوريت الكالسيوم في محاولة لتنقيته.
وفي أبريل/نيسان 2020، وضعت طفلها كاي، لكنه وُلد بلا عينين. وبعد يومين، بدأت تلاحظ أنه لا يستطيع التحكم في حركاته. حملت طفلها الرضيع وسارت لمسافة 80 كيلومترًا من كوش إلى مدينة بنتيو، حيث نقلته إلى مستشفى تابع لمنظمة أطباء بلا حدود.
تقول الأم وهي تنظر إلى ابنها الذي يبلغ اليوم خمس سنوات، بينما يلعب على الأرض الرملية أمام كوخهم المتواضع:
“أخبرنا الطبيب أن سبب التشوه يعود إلى سكننا بالقرب من شركات النفط.”
وبعد عودتها إلى قريتها، واجه كاي صعوبة في الرضاعة واحتاج إلى رعاية طبية خاصة. أبلغت دووث مدير الصحة في المقاطعة بحالة طفلها، فأرسل تقريرًا إلى مركز رعاية الأطفال، وبعد أسابيع، زار مسؤول من شركة SPOC المنطقة ووعد بحفر بئر مياه نظيفة وتوفير أدوية للمستشفى. لكنّ الوعود لم تُنفّذ.
تقول دووث بأسى:
“لم يزرني أحد بعد ذلك. أكثر ما يؤلمني اليوم حين أرى الأطفال يضحكون ويلعبون، بينما يتركون كاي وحيدًا في التراب.”
قصص كهذه تتكرر في أنحاء مقاطعة كوش. خلال زيارة ميدانية في يونيو/حزيران، وثّقت بلومبرغ شهادات عائلات فقدت أطفالها بسبب تشوهات خلقية حادة: رضيع وُلد بسبعة أصابع، وآخر برأسين، وثالث بلا أعضاء تناسلية، إلى جانب أمّين فقدتا أطفالهما بعد الولادة بفترة قصيرة.
في قرية ريير القريبة من حقول النفط، تجمع سارة نيالوك مياه الشرب من بركة مكشوفة قرب منزلها. تقول إن مياه الجريان السطحي، المخزنة في حفر ضخمة على بُعد ميلين فقط، تفيض كل عام مع موسم الأمطار، ملوّثة التربة والآبار. في أبريل/نيسان 2021، أنجبت سارة طفلتها التي وُلدت بقلب صغير وصعوبات حادة في التنفس. توفيت الطفلة بعد ثلاثة أشهر فقط.
تقول نيالوك (27 عامًا):
“لقد دمّرت صناعة النفط حياتنا.”
ورغم تحذيرات الأطباء، تواصل سارة استخدام مياه البركة نفسها لأنها لا تملك بديلًا آخر. ومنذ وفاة طفلتها، أجهضت مرتين.
أما زوجها، الذي يعمل في منشأة تابعة لشركة SPOC حيث تُخزّن المواد الكيميائية، فقد تقدم بشكوى للشركة. لكن الطبيب في المعسكر قال له إنه “لا يمكن فعل شيء”، وسلمه بعض الأدوية البسيطة.
ولا يمكن تحديد السبب الدقيق لهذه التشوهات دون تحليلات مخبرية معقدة ومكلفة في الخارج — وهي رفاهية لا تستطيع معظم العائلات في كوش تحملها.
واحدة من الحالات النادرة التي خضعت لفحص دولي كانت عائلة كورنيليو ماياك جير، التي تعيش شمال المقاطعة، قرب مواقع إنتاج تديرها شركة جريتر بايونير أوبراتينغ (GPOC)، التي كانت بتروناس تمتلك 30% من أسهمها حتى العام الماضي.
كان جير موظفًا في الشركة، وفي عام 2019 أنجبت زوجته طفلًا بساق واحدة فقط. وبعد تجاهل المستشفى المحلي لحالتهم، رفع شكوى إلى وزارة البترول. وفي ديسمبر/كانون الأول 2020، وافقت GPOC على نقل العائلة إلى ألمانيا لإجراء فحوص طبية.
كشفت نتائج التحاليل في مختبر ببرلين عن مستويات مرتفعة من الألومنيوم والباريوم والقصدير والروبيديوم، إضافة إلى 0.5 ملغ من الرصاص لكل 100 غرام من شعر الطفل — وهي نسبة تعتبر غير آمنة إطلاقًا للأطفال وفقًا للمعايير الأمريكية.
وفي رسالة رسمية عام 2021، أكدت وزارة البترول في جنوب السودان أن التشوه “مرجّح بشدة أن يكون ناتجًا عن التعرض لمواد كيميائية مرتبطة بصناعة النفط”، وأن مركز رعاية الطفل التابع للشركة “يتحمل المسؤولية الكاملة عن متابعة الحالة وعلاج الطفل”.
اليوم، يبلغ ماياك خور السادسة من عمره، لكنه عاجز عن المشي ويعتمد كليًا على والدَيه. يقول والده جير:
“طفلي لا يستطيع حتى أن يطلب شيئًا، فقط يشير بيده عندما يحتاج إلى شيء.”
وفي أغسطس/آب 2024، انسحبت بتروناس من جنوب السودان بعد تمزق أحد خطي أنابيب النفط الرئيسية وسط تصاعد الحرب الأهلية. كانت الشركة تنتج نحو 150 ألف برميل يوميًا، لكنها رفعت دعوى قضائية ضد الحكومة متهمةً إياها بعرقلة بيع أصولها البالغة 1.25 مليار دولار. وردت جوبا باتهام الشركة بالتقصير في إجراء التدقيق البيئي وتعويض المجتمعات المحلية، قبل أن تستحوذ الحكومة على أصولها بالكامل.
ورغم تراجع الإنتاج، لا يزال تلوث المياه يشكل خطرًا وجوديًا على سكان كوش البالغ عددهم 191 ألف نسمة.
في يونيو/حزيران الماضي، جمعت بلومبرغ أربع عينات من المياه قرب منشآت النفط، ثلاث منها على بُعد 6 كيلومترات من موقع الإنتاج، وأخرى على بُعد 23 كيلومترًا. أظهرت تحاليل مختبر كروب نوتس في كينيا تركيزات مرتفعة من الألومنيوم والبوتاسيوم والصوديوم وآثار من الرصاص، خصوصًا في القنوات المائية التي يستخدمها السكان للاستحمام والشرب.
ورجّح ثلاثة خبراء في علوم المياه أن هذه النتائج “مرتبطة بشكل شبه مؤكد بأنشطة حفر النفط”. وقال أحدهم، وهو يعمل لدى الأمم المتحدة وفضّل عدم ذكر اسمه، إن مياه بركة قرية ريير “تحمل خصائص مياه الصرف الصناعي ولا تصلح لأي استهلاك بشري”.
وبحسب جيمس توت، مدير الصحة في المقاطعة، فإن 86 بئرًا فقط من أصل 146 لا تزال صالحة للاستخدام، بينما توقّف السكان عن استعمال الآبار القريبة من الحقول النفطية.
أما ماري آين ماجوك، عضوة البرلمان، فدعت الحكومة إلى إنشاء هيئة بيئية مستقلة للتحقيق في آثار صناعة النفط، مشيرةً إلى أن تقارير تدقيق أجريت عامي 2022 و2023 لم تُنشر نتائجها حتى اليوم.
ورغم الإهمال الرسمي، يواصل السكان المحليون — من أطباء وصيادلة ونشطاء بيئيين وأمهات ثكالى — المطالبة بالعدالة والتعويض.
يقول كور تشوب ليك، المدير التنفيذي لوكالة سود البيئية:
“لقد لوّثت بتروناس مجاري المياه في جنوب السودان وتخلّت عن مسؤولياتها. ما يحتاجه الناس الآن هو تعويض حقيقي وتدقيق بيئي شامل.”
نقلا عن بلومبرج