السلام عليكم
ها هي رياح التبدّل تهبّ أخيراً على هذا الوطن الجريح، كأنها نسمة خفيفة جاءت من بعيد لتقول للناس إن الليل مهما طال لا يمكنه أن يمنع الصبح من المجيء. بعد عامين ونصف العام من الجحيم، من الدمار والتشريد، من الجوع والخوف، باتت كلمة السلام تتردّد في أزقة المدن وبيوت النازحين، وعلى ألسنة الناس في المقاهي والمخيمات، كأنها دعاء جمعي خرج من صدور أرهقها الوجع. في بورتسودان، حيث استقرّت الحكومة و إحتشدت القوى السياسية، أخذت أحاديث الهدنة والمصالحة تتسلّل إلى الجلسات الرسمية وغير الرسمية، لتغدو موضوع الساعة ومفتاح الأمل.
ما عادت الأحاديث كلّها عن الحرب والإنتقام، ولا عن “الحسم” و”المعركة الأخيرة” كما كانت، بل صار السؤال الذي يطرحه الناس على أنفسهم وعلى قادتهم: ما هو السلام الذي نريد؟ أهو سلام المتعبين الباحثين عن الخبز والأمان، أم سلام العادلين الذين يبتغون إصلاح الجرح قبل رتقه؟ كيف يمكن أن نصل إلى اتفاق لا يكرّس الهزيمة لأحد، بل يمنح الجميع فرصة للبقاء في ظلّ وطنٍ واحد لا يُقصي أحداً؟
الجدل يدور في المجالس، في الممرات المزدحمة بالمباني الحكومية، في مقاهي البحر الأحمر حيث يجلس العائدون من موانئ اللجوء المؤقت، وفي خيم الإغاثة التي صارت ملتقى الأفكار والآمال. هناك من يخاف من أن يكون هذا الحراك مجرّد “إستراحة محارب”، وهناك من يرى فيه بداية حقيقية لتحوّل تاريخي، إن صدقت النوايا و إرتفعت البصيرة فوق الحسابات الضيقة.
ومهما يكن، فإن مجرد عودة الحديث عن السلام في هذا التوقيت العصيب هي علامة حياة، فالكلمة الطيبة لا تُولد إلا من رحم الألم، ولا تكتسب معناها إلا حين يكون البديل هو الفناء. لقد خفتت أصوات الحرب قليلاً، وتراجع الخطاب التحريضي الذي كان يملأ الشاشات والمنصات، وبدأت لغة أكثر اتزاناً تحلّ محلّها. في ذلك بصيص رجاء بأنّ السودان، بكل ما فيه من رماد ودموع، لا يزال قادراً على استعادة وعيه الجمعي.
من وراء البحار تتوارد الأنباء عن محادثات جادّة، عن وساطات إقليمية ودولية بدأت تثمر بعض التفاهمات، عن هدنة إنسانية باتت أقرب من أي وقت مضى. هدنة قد لا توقف الحرب كلها، لكنها تفتح باباً للأمل، وتمنح الناس لحظة تنفّس، لحظة يشعر فيها الجائع أن خبزه قادم، والمشرّد أن مأواه ليس حلماً بعيداً. هدنة تطعم الأطفال بعد جوع، وتسكب الطمأنينة في القلوب التي أرهقها الخوف، وتعيد للنفوس إيمانها بأن الغد قد يكون أقل قسوة.
إنّ السلام ليس ورقة تُوقّع في قاعة فخمة، بل هو تحوّل في الضمير الجمعي للأمة. أن يؤمن الناس أن الوطن ليس غنيمة، وأن العدو الحقيقي ليس من يختلف معنا في السياسة، بل هو الجهل والكراهية والفقر الذي يلتهم أحلام الجميع. السلام هو أن نكسر دائرة الثأر التي ابتلعت أجيالاً، وأن نعيد تعريف القوة بأنها القدرة على العفو، لا على البطش.
من المؤلم أن نكون قد وصلنا إلى هذه القناعة متأخرين، بعد أن دفعنا ثمناً باهظاً من الأرواح والعمران والكرامة، لكنّ الوصول المتأخر خيرٌ من الضياع الأبدي. السودان بلد عجيب في قدرته على النهوض بعد كل انكسار، وكأن تربته تحفظ ذاكرة الأمل. من قلب الركام كانت تنهض دوماً قصص البطولة، ومن عمق الفقد تولد إرادة الحياة. واليوم، حين تتناثر خيوط الحديث عن السلام في ربوع البلاد، فإنها ليست مجرّد أصداء دبلوماسية، بل صدى لوجدانٍ جمعي يريد أن يعيش.
فلنؤمن أن هذه البلاد، رغم كل ما أصابها، ما زالت صالحة للحياة. ما زال في القرى صوت مؤذن يدعو الناس لصلاة الفجر، وفي الأسواق امرأة تبيع الخبز بابتسامة، وفي الطرقات طفل يحمل حقيبته المدرسية ببراءة لا تعرف الحروب. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تحفظ للوطن روحه حتى حين ينهار جسده.
قد يكون السلام الآن حلمًا بعيد المنال، لكنه حلم جدير بأن نحرسه بالكلمة والنية والإصرار. فلنرفع رؤوسنا عالياً، ولنتشبث بالأمل كما يتشبث الغريق بخشبة النجاة، فربّ كلمة تُقال اليوم بصدق تُنقذ غداً مئات الأرواح، وربّ خطوة نحو التسامح تُغلق باباً على حربٍ جديدة.
سيأتي اليوم الذي يخرج فيه الناس إلى الشوارع لا ليهتفوا للحرب، بل ليستقبلوا السلام بالزغاريد والدموع. سيأتي اليوم الذي تُرمّم فيه المدارس بدل شراء الدبابات، وتُزرع الحقول بدل المتاريس. سيأتي اليوم الذي تعود فيه الخرطوم وكل المدن السودانية لتكون منابر للعلم والحياة، لا ساحات للموت والدمار.
ذلك اليوم قادم، ما دامت هناك قلوب تؤمن، وألسنة تنطق بالسلام بدل اللعنات، وسواعد تبني بدل أن تهدم. سلامٌ على هذه الأرض التي علمتنا الصبر، وعلى شعبها الذي لم يفقد الأمل رغم كل ما فقده. سلام على كل من لا يزال يزرع وردةً في طريق النار، مؤمناً بأن الغد سيأتي، وأن السودان سينهض، لا بحدّ السيف، بل بقوة الحلم والإرادة والرجاء.