سوسن محجوب
كما أن للحرب جنرالات يكتسبون منها النفوذ والمال، فإن للدواء أيضاً جنرالات يسيطرون على كل “حبة دواء”، يجيدون إخفاءها ويتحكمون في توزيعها ونشرها كما يفعل جنرالات الحرب مع جنودهم في أرض المعركة.
لم يكن أمام الشاب إسماعيل الخضر أي خيار بعد أن أخبره الصيدلي، وأمام الحاضرين في الصيدلية، بأنه لا يملك محاليل بندول (دربات بندول)، لكن “م. ع” يبيعها داخل منزله، مضيفاً : “لكن سعره شوية غالي.. 15 ألف جنيه.”
بندول في ثلاجة بطاطس
أحد جنرالات الدواء قام بتخزين (8622) كرتونة تحتوي على (86238) “درب بندول” – العلاج الأساسي لمرضى حمى الضنك – داخل “ثلاجة بطاطس” بمدينة أم درمان، إحدى محليات العاصمة الخرطوم.
ووفق ما أعلنته الخلية الأمنية، فقد تم ضبط شبكة إجرامية تنشط في بيع محاليل بندول “دربات البندول” في السوق الأسود، خارج مظلة القطاع الطبي وشركات توزيع الأدوية والصيدليات.
وزير الصحة: لهذا السبب ظهر سوق الدواء الأسود
يرجع وزير الصحة السوداني هيثم محمد إبراهيم، في حديثه لـ(أفق جديد)، أسباب ظهور السوق الأسود إلى أنه عادة ما ينشأ مع “زيادة أي وباء”، موضحاً أن ذلك مرتبط بحالة من “الهلع والقلق” التي تولد بدورها “السوق الأسود”.
ويؤكد الوزير أن: “الإمداد متوفر، وكذلك المرصود القادم متوافر.”
صراع أذرع الحكومة
أصدرت الإمدادات الطبية – الذراع الحكومي – بياناً حول ملابسات أزمة الدواء بولاية الخرطوم، أوضحت فيه أنها “غير مسؤولة عن فتح نوافذ لخدمة الجمهور”، وأن هذه المسؤولية تقع على عاتق “الدواء الدوّار لولاية الخرطوم”.
وإعتبر مختصون أن هذا التراشق بين الجهات الحكومية يمثل أحد أقوى محفزات ظهور السوق الأسود.
الحكومة تخدع الشعب
رئيس شعبة مستوردي الأدوية يوسف شكاك أكد أن الحكومة تسيطر على أسعار الدواء، لكن الفرق بين الماضي والحاضر هو أن الحكومة تقول مثلًا إن “دولار الدواء” يساوي ألفي جنيه، بينما السعر الفعلي للدولار في السوق كان نحو ألف وخمسمائة جنيه.
ويضيف لـ(أفق جديد):
“الحكومة تحاول توفير دولار الدواء لكنها لا تفعل فعلياً (…) ومنذ الحكومة الإنتقالية أصبح دولار الدواء بالسعر التأشيري، وهذه السياسة فتحت الباب لفساد بعض موظفي البنوك.”
ويتابع قائلاً إن السياسة “لم تنجح”، وأن شراء الدواء أصبح يتم عبر شيكات بنفس سعر الدولار في البنوك، مما أحدث فوضى في تسعير الأدوية، بينما وزارة الصحة لا تسمح بزيادته رغم تغيّر سعر الدولار.
دمار مخازن الإمدادات الطبية
وحول أزمة حمى الضنك، يقول شكاك: إن الوفرة الحالية في الأدوية أفضل مما كانت قبل الحرب، فالأدوية الأساسية مثل علاج السكر والضغط متوفرة، لكن هناك مشكلة حقيقية في أدوية تحتاج إلى سلسلة تبريد مثل الإنسولين، لأنها كانت تُوفَّر عبر الإمدادات الطبية.
ويشير إلى أن منشآت الإمدادات الطبية تدمرت بالكامل، والقطاع الخاص لا يملك مخازن أو قدرات لتوفير تلك الأصناف، مضيفاً : “نسعى الآن لإنشاء مبرد مشترك بين الحكومة والقطاع الخاص في كل ولاية لحفظ الأدوية للطرفين.”
صراع جنرالات الأدوية وبيع الظلام
وعن الصراع بين الإمدادات الطبية والدواء الدوّار، يقول شكاك: إن الخلاف قديم وبلا معنى، وهو صراع بين وزارة الصحة الاتحادية وصحة ولاية الخرطوم.
ويؤكد أن الوضع الصحيح هو أن يكون “الدواء الدوّار” تحت سلطة الإمدادات الطبية، لكن الصراع ما يزال مستمراً .
وأردف: “حمى الضنك وباء يستهلك كميات أكبر من المحاليل الوريدية، وسعر الدواء يرتبط بالوفرة لا بالرقابة.”
ويضيف أن محاولة ضبط الأسعار بالقوانين تدفع بعض التجار إلى العمل في الظلام، بدلًا من فتح القنوات الرسمية للتوزيع.
تكايا لمواجهة السوق الأسود
في مواجهة المضاربة في أسعار عقاقير حمى الضنك، خاصة “دربات البندول”، بادرت بعض التكايا في أم درمان إلى شراء الدواء من متبرعين داخل وخارج السودان وتوزيعه مجانًا عبر صيدليات محددة.
وأعلنت إحدى التكايا عن إستمرار التوزيع المجاني لـ”دربات البندول” من داخل صيدلية محمد طه بشارع الوادي جنوب لفة الـ30 جوار مركز ماو للعيون.
الحكومة غير مهتمة
عضو تجمع الصيادلة المهنيين عوض عبد المنعم نفى أن تكون سيطرة الحكومة على سوق الدواء سبباً في ظهور السوق الأسود.
وأوضح أن: “الصحة والعلاج والدواء ليست من أولويات الحكومة، وهي غير مهتمة بهذا الأمر إطلاقاً .”
وأضاف أن الحكومة، منذ عهد البشير، كانت تدّعي دعم قطاع الدواء دون أن تفعل، وكل ما كانت تقوم به هو توفير الدولار بسعر البنوك وليس بسعر السوق الأسود، وهي “الخدعة الكبرى” التي استخدمت لتحريك سعر الدولار الرسمي حتى يقترب من سعر السوق الموازي.
“ومن هنا بدأت كل مشاكل الدواء في السودان.”
إهمال ممنهج لمؤسسة الأمن الدوائي
فيما يتعلق بسيطرة الإمدادات الطبية على عقار علاج حمى الضنك وتوزيعه عبر “الدواء الدوّار”، مما أدى إلى تفاقم السوق الأسود، يشير عوض إلى أن الإمدادات الطبية هي المؤسسة الوطنية المسؤولة عن الأمن الدوائي.
ويؤكد أنها تقوم بأدوار كبيرة رغم ما تواجهه من مشاكل، لكنها كانت تتعرض لإهمال مقصود وممنهج يهدف إلى تفكيك المؤسسة الوطنية للدواء، مضيفاً : “الإمدادات الطبية توفر الأدوية بسعر مناسب، وتغطي أصنافاً لا يستطيع القطاع الخاص توفيرها، مثل الأمصال، وكل ما تحتاجه هو توفير النقد الأجنبي.”
ويمضي قائلاً : “لا يمكن القول إن الدولة تحتكر الأدوية، فهناك قطاع خاص وشركات تستورد محاليل البندول، لكن تظل مسؤولية الدولة تجاه المواطنين هي في ضمان وفرة الدواء وعدالته.”