حرب السودان.. كيف انهارت المنظومة الرياضية؟

 

تحقيق: خالد عوض الكريم محمد

في ١٥ أبريل ٢٠٢٣م اندلعت الحرب في السودان؛ التي حطمت البنية التحتية والعديد من القطاعات المهمة مما أثر على حيوات السودانيين تأثيراً هائلًا.

قطاع الرياضة في السودان ليس استثناءً؛ فقد تأثر هو الآخر بالحرب وتداعياتها المدمرة، إذ عمّ الشلل الميادين وتوقف النشاط وهاجر الكثير من اللاعبين إلى دوريات خارجية، كان للدوري الليبي النصيب الأكبر من هذه الهجرة.

وإلى جانب ذلك عمّ الدمار الشامل دور الرياضة، فشهدنا الاستادات الكبيرة: استاد الخرطوم، استاد الهلال، استاد المريخ، واستاد دار الرياضة بأم درمان، وقد تم تحطيمها بالكامل، عطفاً على المدينة الرياضية في الخرطوم التي لم يتم افتتاحها بعد وشهدت تفاصيل البدايات الأليمة، هذا بجانب معاناة كل العاملين في المنظومة الرياضية، فقد راح الكثير منهم ضحية لهذا الجنون، فالبعض تمت تصفيته والبعض مات بسبب الإهمال والنزوح.

نجاة صقور الجديان ونجاح الهلال

لم ينجُ من تداعيات الحرب إلا المنتخب الوطني السوداني، الذي وجد الرعاية الكاملة من الإخوة في الاتحاد السعودي لكرة القدم لينجح في التأهل إلى نهائيات البطولة الأفريقية الكبرى، وبطولة المحليين، وخطى بثبات في رحلة البحث عن مقعدٍ في كأس العالم قبل أن يفقد التوازن في الأمتار الأخيرة من السباق، حدث هذا في غياب التنافس ما اعتبر أمرًا يبدو أقرب إلى المعجزة.

ووصل إلى هذا النجاح أيضًا نادي الهلال الخرطومي، الذي يشرف على إدارته أحد أثرياء السودان وهو هشام حسن السوباط، إذ بلغ الفريق دور الثمانية من البطولة الأفريقية للأندية في نسختها الأخيرة بعد غياب تواصل منذ العام 2015م، والآن تجاوز الدور التأهيلي بعد أن تساقطت كل الفرق السودانية، وفي الجانب الآخر تأثر القطب الآخر للكرة السودانية نادي المريخ، الذي كان يجد الدعم من الأقطاب المقتدرين قبل اشتعال الحرب التي أفقرت الجميع.

التنافس المحلي وضبابية الرؤية

أما بخصوص استئناف بطولة الدوري الممتاز فالرؤية لا تزال ضبابية رغم إصرار الاتحاد السوداني لكرة القدم على إقامة المنافسة، خاصة وأنه أمر حتمي، فدون منافسة لا يمكن لفرقنا المشاركة في النسخة القادمة من البطولات الأفريقية، وتابعنا جميعًا ما يسمى بدور النخبة الذي اعتبره البعض “تحصيل حاصل” لا يرقى لمرحلة أن نطلق عليه منافسة، وبما أن إقامة المنافسة أمر لا مفر منه وإلا سيفقد السودان فرصته في المشاركة القارية الموسم القادم فلابد أن يصل القائمون على الأمر إلى قرار نهائي لحل هذه المعضلة، إذ لا عذر حتى وإن انعدمت الملاعب التي تصلح لاستضافة المباريات.

الأجهزة الفنية وتوقف النشاط

عن شريحة المدربين يقول المدرب الوطني المعروف كفاح صالح إن الكرة السودانية تعتمد على الكادر الوطني في مجال التدريب، فكل الأندية باستثناء الهلال والمريخ والفريق القومي تشرف عليها أجهزة فنية وطنية بصفة التفرغ الكامل، معتمدة على الرواتب والحوافز، وهذه الشريحة تضررت ضرراً بالغاً بفعل الحرب التي أفضت إلى توقف النشاط، ليجد المدربون أنفسهم في مواجهة العطالة والعدم، وقد حاول البعض التعايش مع الوضع من خلال امتهان المهن الهامشية، ولكن كان ذلك بلا جدوى في ظل توسع الحرب التي ألقت بظلالها السلبية على كل شيء، والحق أن الفنيين دفعوا ثمن الحرب باهظاً، وكحال كل أبناء الشعب السوداني رحل عدد كبير من المدربين بفعل الحرب وتداعياتها المدمرة ولا يزال الكثير من المدربين يعيشون حالة التوهان والعدم.

حرمان الأندية من طاقة إيجابية ضخمة

الأستاذ عماد الطيب المحامي أمين عام نادي الهلال الأسبق يقول: بالتأكيد إن الحروب أياً كان شكلها، وبصرف النظر عن أنواع الأسلحة المستخدمة طالما هي حرب فهي مدمرة، وبالضرورة تأثيرها كبير جدًا على أي بلد خاصة إذا كان هذا البلد هو السودان، الذي يعد حسب التصنيف العالمي من دول العالم الثالث التي تتلمس طريقها في كافة المستويات والمناحي الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية والرياضية؛ ونستطيع القول إنه من المعلوم بداهة أن الرياضة بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص أضحت في الفترة الأخيرة تعتمد اعتماداً أساسياً على مداخيل الأندية وقوتها الاقتصادية، وبما أن الحرب استمرت وتقترب من إكمال عامها الثالث في ظروف بالغة التعقيد وحرب شرسة جدًا تفتقر لأبسط قواعد الأخلاق إن جاز التعبير، لأنها مست المواطن في جسده وشرفه وماله وممتلكاته، وامتد الحريق ليشمل البنى التحتية، فما سلمت المرافق الصحية ولا الأسواق ولا المتاجر ولا الطرقات ولا قطاعات الكهرباء والمياه والبترول والاتصالات… إلخ.

وكذلك المنشآت الرياضية، فأخطر بؤرة كانت على مستوى ولاية الخرطوم دارت رحى الحرب فيها بكثافة وتعرضت لقصف هائل جدًا بالأسلحة الثقيلة والطائرات كانت المدينة الرياضية، لأنها كانت مركزاً أساسياً للدعم السريع أحد طرفي الحرب، واستمر القتال حولها وفيها عامين متواصلين من القصف المتبادل مما ألحق بها دماراً رهيباً، وقد كانت قبل الحرب أحد المشاريع الرياضية التي يعول عليها السودان كثيرًا لتنتشله من وهدته، وكذلك تضررت المنشآت الرياضية والملاعب على مستوى ولاية الخرطوم، وأذكر منها استاد الهلال والخرطوم والمريخ والموردة والتحرير، وحدث نهب للممتلكات على مستوى استاد الهلال لم يسلم شيء حتى فندق اللاعبين، واستراحة اللاعبين، والمركز الطبي، ومراكز التأهيل البدني، وصالات الجمانيزيوم، كلها تم نهبها بشكل ممنهج، كما لحق دمار كبير بأرضيات استادات الهلال والمريخ والتحرير، إذ كانت من العشب الطبيعي الذي يعتمد على الري المتواصل الذي انقطع بعد التشريد وتفريغ العاصمة من المقيمين.

على المستوى الرياضي أيضًا توقف الدوري الممتاز أكثر من ثلاثة أعوام، ومن المعلوم أن الدوري المحلي هو الذي يقوي الأندية في المنافسات الأفريقية على مستوى نادي القمة الهلال والمريخ، والدليل على ذلك أنه رغم الصرف العالي المبذول من مجالس إدارات الأندية المختلفة “الهلال والمريخ” نموذجاً: العدد الكبير من اللاعبين المحترفين، وملايين الدولارات التي صُرفت على اللاعبين والأجهزة الفنية والمعسكرات الخارجية المستمرة لأكثر من ثلاث سنوات ومشاركات على مستوى الدوري التنزاني و الموريتاني، ومعسكرات على مستوى ليبيا ومصر وتونس وصرف كبير جدًا؛ فبالرغم من كل ذلك لاحظنا المشاركة الأخيرة للهلال على مستوى بطولة سيكافا خرج الهلال منها على يد أحد الأندية التي تكاد لا تشارك أفريقياً على مستوى المنافسات الكبيرة، ولم يحدث له أن شارك في بطولة الأندية الأفريقية، والمريخ يخرج من الأدوار الأولى في البطولة الأفريقية، وهذا نتاج لتأثيرات الحرب، والأندية السودانية تعتمد على ملاعبها بشكل كبير جدًا ولها جمهور شرس ومصنف ومعروف على مستوى أفريقيا حرمت منه، وبالتالي فهي حُرمت من طاقة إيجابية ضخمة كانت تزوّد اللاعبين والأجهزة الفنية في المُضي قدماً على مستوى البطولات، هذا على مستوى كرة القدم باعتبارها النشاط الذي يحتل المرتبة الأولى على مستوى اهتمام الجماهير السودانية، أما فيما يتعلق بالألعاب الأخرى فقد كان السودان مميزاً في ألعاب القوى في الأولمبياد ودائم المشاركة فيها، أما الآن فتوقف لثلاث سنوات عن المشاركة وهذه المسألة لها تداعياتها، وغير ذلك كثير.

من مقدم برنامج رياضي شهير إلى “حمّال”

الإعلامي المعروف ومعد البرامج الشهير بالإذاعة الطبية 99.3 عبد العليم مخاوي، الذي عانى كثيرًا كحال السواد الأعظم من الإعلاميين، قال إن اندلاع الحرب في 2023م أثّر بشكل سلبي على معظم الشعب السوداني، وقبيلة الصحفيين والإعلاميين جزء لا يتجزأ من هذا الشعب، كذلك هناك انعكاسات سلبية منها فقدان الوظائف و مدخراتها وكل ما جُمع للمستقبل، وهي قاسم مشترك بين جميع المواطنين الذين فقدوا وظائفهم ومقتنياتهم ومركباتهم، وللأسف نحن الإعلاميين بصفة عامة وفي الإعلام الرياضي على وجه الخصوص، عانينا من تداعيات قاسية لهذه الحرب المدمرة التي اشتعلت دون مقدمات أو سابق إنذار.

على المستوى الشخصي فقدت مصدر دخلي في الإذاعة الطبية وصحيفة ريمونتادا الرياضية، بعد رحلة نزوح من الخرطوم التي مكثت فيها لفترة 74 يومًا من اندلاع الحرب، وصلت إلى مدينة كوستي في ولاية النيل الأبيض، وللأسف الشديد لم أجد حيزاً أو مكاناً للعمل في مجال التخصص، سواء في الإذاعة أو الصحف، لذلك اضطررت للبحث عن مصدر دخل بالنسبة لي ولأسرتي لأننا فقدنا مصدر دخلنا وتركناه في الخرطوم، عملت كعامل رفع وتنزيل بـ”درداقة” في السوق المركزي للخضر والفواكه ومنتجات اللحوم والأسماك في كوستي المعروف إختصاراً بـ”الملجة”، ويبدأ اليوم من الساعة الرابعة والنصف صباحاً وحتى الرابعة والنصف عصراً.

ويضيف مخاوي: الحمد لله “الأمور ماشة”، العديد من الزملاء والإعلاميين عملوا في مهن بديلة تندرج ضمن المهن الهامشية حتى يتسنى لهم توفير متطلبات الحياة خلال فترة الحرب القاسية، فيمكن أن تجد رئيس تحرير يعمل في سوق الماشية ويبيع الخضروات و يكابد من أجل حفنة فلوس توفر له متطلبات وجبة في اليوم له و لأولاده، لقد كانت تجربة صعبة، انعكاساتها وآثارها النفسية لا تحتمل، لكن الناس استطاعت التأقلم مع الوضع الجديد وترضى بما قسمه الله لها، في النهاية أمر المؤمن كله خير، فمهما كانت الظروف قاسية وكل الأشياء ضدنا ولكننا نعشم ونرجو الله أن يعيد إلينا نعمة الأمان ونرجع إلى بيوتنا و ناسنا و أهلنا و لمهنتنا التي نحبها، التي تجري في دمنا، الصحافة والعمل الإعلامي بشكل عام يجري في دمنا، وهو شغف كبير رغم المصاعب والمتاعب الموجودة فيه، وهي مهنة البحث عن المتاعب، لكن في النهاية نقول إن ما حدث كان لخير ، و سنرجع أقوى وأفضل وأجمل من أول إن شاء الله.

نجوم حملوا السلاح و إصطفوا مع طرفي الحرب

واللافت في هذه الحرب أن هنالك عددًا كبيرًا من اللاعبين اصطفوا مع طرفي الحرب وحمل جزء منهم السلاح، البعض مع الجيش والآخر مع الدعم السريع، مثل نجم الهلال الكبير صلاح الضي الذي ظل متخندقاً في المدرعات حاملاً السلاح منذ الأيام الأولى من الحرب، حتى تحرير الخرطوم من قوات الدعم السريع، وهناك أيضًا نجم المريخ محمد علي سفاري وأكرم الهادي سليم و مدثر كاريكا و حسين أفول وغيرهم من الذين ارتدوا شعار الأندية الرياضية الكبرى، وفي جانب الدعم السريع وقف نجم القمة الأسبق اللاعب علاء الدين بابكر محرضاً ضد الجيش والجهة التي تسانده، وقد كان صوته عالياً وهو يتحدث بمنتهى التحريض والتهديد، ومثله على الجانب الآخر نجم نجوم السودان اللاعب الأكثر شهرة الكابتن هيثم مصطفى كرار، الذي استغل تواجده في قناة الجزيرة الرياضية ليقدم الدعم للجيش ويحرض ضد الدعم السريع.

الهلع النفسي وأثره على أفراد القطاع الرياضي

فيما يخص الجانب النفسي يقول الدكتور الفاتح سليمان المختص في جانب الطب النفسي الرياضي: من المؤكد أنه في ظل الحروب والنزاعات المسلحة يكون هناك صراع نفسي كبير لا يقتصر تأثيره إذا ما تحدثنا عن القطاع الرياضي على اللاعبين فقط، بل يمتد إلى المدربين والإداريين والجماهير، وحسب متابعتي فقد عاش اللاعبون القلق والخوف وهذا ما أفقدهم التركيز وتسبب في انخفاض أدائهم في الملعب، أما الإخوة الإداريون والمدربون فقد عانوا ضغوطاً نفسية هائلة بسبب مسؤولية الحفاظ على الفرق، وبالمقابل فقد أصيبت الجماهير بالحزن والاكتئاب بسبب توقف النشاط وفقدان الهوية والانتماء للفريق.

ويتابع قائلاً: على مستوى الأفراد فقد عايشت الكثير من الاضطرابات النفسية لعدد مهول من أفراد الوسط الرياضي، وفي ظني أن السواد الأعظم من مكونات المجتمع الرياضي أحوج ما يكونون الآن إلى جلسات نفسية للتداوي من مضاعفات ما يمكن أن نطلق عليه “نوبات الهلع”، فآثار الحرب كارثية ومدمرة. أما فيما يتعلق بعودة الحياة الرياضية كما كانت قبل الحرب بعد فترة التوقف والصراع فالأمر يحتاج إلى زمن طويل وعلاج نفسي مكثف، بعدها تكون العودة تدريجيًا إلى النشاط.

خطر الإصابة يهدد حياة النجمين الكبيرين كاشان و الدويم

ومن أكبر ضحايا الحرب حارس مرمى الهلال الأسبق عبد الرحيم كاشان الذي أصيب بطلق ناري في الرأس أحدث فتحة عميقة في الجمجمة جعلته يصاب بالشلل النصفي رغم إجراء خمس عمليات جراحية، ويبدو كاشان الآن في وضع لا يسمح له بالتركيز والحديث ومعرفة ما حوله. وهناك أيضًا اللاعب القومي الرشيد الدويم الذي تعرض لإصابة بالغة في الركبة أجرى على إثرها أكثر من عملية جراحية ولا زال يعاني آثار الإصابة ، وقد أكد أنه ما كان يظن ابداً أنه سيبقى على قيد الحياة بعد أن داهمه أفراد يتبعون لقوات الدعم السريع بمنطقة القطينة ومارسوا بطشهم عليه وأطلقوا عليه النار دون أي رأفة رغم أنه لم يكن يحمل سلاحاً، ليكتب الله له عمراً جديداً ويعاني الرشيد ظروفاً سيئة ويخشى أن يفقد قدمه لضعف ذات اليد وانشغال الجميع بأنفسهم.

أشهر ضحايا الحرب من رموز الرياضيين

من أشهر ضحايا الحرب عضو مجلس إدارة نادي الهلال اللواء الصادق يوسف الذي تمت تصفيته على يد الدعم السريع، بجانب الحكم القومي المتقاعد محمد أبو زيد وزميله محمد عبيد وعلي فضل والإعلامي المعروف عصام الحاج ونجم الأهلي الخرطوم ياسر الحاج، وأشهر نجوم الكرة السودانية الكابتن فوزي المرضي الذي لم يحتمل رؤية ابنته الطبيبة وهي تموت أمامه غدرًا برصاص الحرب ليلحق بها في أقل من أسبوع، ورحل أيضًا بفعل النزوح الكابتن السفير الدكتور علي قاقرين والكابتن الأسطورة حامد بريمة، والصحفي الشهير شريف الأشتر ورئيس نادي المريخ محمد الياس محجوب والإعلامي ميرغني أبو شنب والنجم المعروف أبو كدوك والأستاذ عبد المطلب سكرتير نادي النيل والسيد مرتضى سكرتير نادي الناصر، وعادل إبراهيم عجيب عضو مجلس إدارة نادي أم بدة. هذه الأسماء هي قليل من كثير راحت ضحية هذه الحرب التي لا تزال تفاجئ الرياضيين بآثارها السلبية القاسية.

وإلى أن تتوقف الحرب سيظل محبو الرياضة يحلمون بالعودة إلى الملاعب الخاوية، وأن يرافقوا أنديتهم بالتشجيع، ويتابعوا عبر الإعلام أخبار نجومهم المفضلين.

Exit mobile version