حاتم أيوب أبو الحسن
في أكتوبر الحالي برزت في المشهد السوداني كلمتان تختصران عمق المأزق الوطني، وهما فك الارتباط والفرصة الأخيرة. فالأولى تعبّر عن محاولة خجولة لفصل القرار العسكري عن قبضة الحركة الإسلامية التي ظلت لعقود تتغلغل داخل المؤسسة العسكرية وتتحكم في مساراتها منذ التجنيد إلى الترقي والقيادة، أما الثانية فتعني النافذة الأخيرة أمام القادة العسكريين والسياسيين لإنقاذ ما تبقى من الدولة قبل أن يطويها العنف والتفكك الكامل. تصريحات المبعوث الأمريكي مسعد بولس عن شروع البرهان في فك ارتباطه بالإسلاميين أعادت فتح النقاش حول من ينفك عن من، وهل يملك البرهان حقاً القدرة على التحرر من بنية صنعته، أم أن الأمر لا يتعدى إعادة تموضع مرحلية بإذن من ذات المنظومة التي أخرجته.
لم يكن البرهان سوى نتاج لمنظومة محكمة بناها الإسلاميون داخل القوات المسلحة عبر عقود، إذ صُمم النظام التعليمي والعسكري لضمان ولاءات أيديولوجية سابقة للانتماء الوطني. هذا الاختيار المسبق جعل المؤسسة تُنتج القادة على مقاس مشروعها السياسي، ولهذا فإن الحديث عن فك الارتباط بين البرهان والحركة الإسلامية يظل رمزياً ما لم يتم تفكيك بنية السيطرة المؤسسية التي أنتجت أمثاله. فالقضية ليست في الأسماء، بل في شبكة النفوذ التي تدير الجيش والاقتصاد والأمن والمجتمع.
ولأن السيطرة ليست وليدة اللحظة، بل هي منظومة متكاملة من التعليم العسكري والتمويل والاقتصاد الحربي والعلاقات التنظيمية، فإن استبدال شخص بآخر من ذات المدرسة لا يغير من واقع الارتباط شيئاً، بل يكرس استمراره في شكل جديد. لذا فإن ما يجري اليوم ليس فك ارتباط بقدر ما هو تبديل في واجهة المشهد لإدارة الصراع بين مراكز القوى نفسها. إلا أن الأحداث المتسارعة واللقاءات الدبلوماسية المكثفة تشير إلى وجود ضغوط حقيقية على قيادة الجيش لإحداث تحولات ملموسة، ولو شكلية، مستندة إلى وعود من المجتمع الدولي بعودة الدعم والاعتراف مقابل إصلاحات سياسية وأمنية محددة.
غير أن الإصلاح الحقيقي لا يتم بقرارات فردية أو وعود خارجية، بل بتفكيك منظومة السيطرة وإعادة بناء مؤسسة وطنية جديدة تخضع لرقابة مدنية وتعمل بعقيدة وطنية لا حزبية. هذه العملية المعقدة تعرف عالمياً باسم إصلاح القطاع الأمني، وتشمل إعادة هيكلة الجيش ودمج القوات المساندة وفق برامج محددة تُسمى نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج، مع إصلاح تشريعي يحدد صلاحيات المؤسسة العسكرية ويمنع تدخلها في السياسة والاقتصاد. ولا يمكن تنفيذ هذا المسار إلا عبر وقف شامل للحرب وفتح ممرات إنسانية وإطلاق عملية سياسية شاملة تضع الأمن في صلب الحل.
الفرصة الأخيرة التي يتحدث عنها الوسط السياسي والدبلوماسي هي في جوهرها اختبار لمدى استعداد الجيش والقوى المدنية معاً للقبول بترتيب انتقالي جديد يعيد للسودانيين مؤسساتهم. فإما أن ينجح البرهان ومن حوله في تحويل لحظة الضغط الدولي إلى بداية تصحيح حقيقي، أو أن تتحول محاولات فك الارتباط إلى مجرد مناورة تكتيكية يتبعها تبديل في الوجوه وبقاء ذات المنظومة القديمة بأدوات جديدة.
السودانيون اليوم أمام معادلة صعبة، فإصلاح الجيش ليس خياراً سياسياً فحسب، بل شرط لبقاء الدولة. إنهم يدركون أن فك ارتباط مؤسساتهم عن كل التيارات المتحكمة لا يتحقق إلا ببناء قوات جديدة تقوم على المهنية والولاء للوطن وحده، وأن الطريق لذلك يبدأ بإرادة وطنية موحدة تفرض الشفافية والمحاسبة وتفصل بين القوة والسياسة. هذا يتطلب من القوى المدنية أن تتوحد في موقفها، ومن الجنرالات أن يتخلوا عن امتيازاتهم السابقة ويقبلوا بإشراف مدني حقيقي، كما يتطلب من المجتمع الدولي أن يربط أي دعم أو اعتراف بخطوات إصلاح ملموسة لا ببيانات النوايا.
ما يجري اليوم هو مفترق طرق في التاريخ السوداني، فإما أن تتحول لحظة أكتوبر إلى بداية إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، وإما أن تضيع الفرصة الأخيرة ويستمر العبث. السودان لم يعد يحتمل مزيداً من المراوغات ، والضحايا المدنيون الذين يسقطون كل يوم يشهدون على فشل النخب في تحمل مسؤوليتها الأخلاقية. هذه الحرب ليست قدراً ، بل نتيجة مباشرة لتغوّل المؤسسة العسكرية و تواطؤ النخب السياسية، والخلاص منها لن يأتي إلا بإصلاح جذري يعيد للسودانيين حقهم في مؤسسات وطنية مهنية تعبر عنهم جميعاً .
إن الفرصة الأخيرة التي يمنحها التاريخ اليوم للسودان هي أن يواجه قادته الحقيقة بشجاعة : لا يمكن أن تكون هناك دولة ديمقراطية وجيش حزبي في آنٍ واحد . إما أن يفك السودان إرتباطه مع منظومات السيطرة القديمة ويبني جيشاً جديداً عقيدته حماية الشعب والدستور ، أو أن تستمر الدائرة المفرغة إلى أن تنهار فكرة الدولة نفسها . فالتاريخ لا يمنح فرصاً كثيرة ، وهذه هي الفرصة الأخيرة التي إن ضاعت ، سيُكتب أن السودان أضاع نفسه وهو يفاوض على أشباح سلطة لم تعد تملك حتى ظلها.
نعود…