حسن فاروق.. حين يواجه الصحفي النزوح العطالة بحصاد التمر

الزين عثمان

وجد الصحفي السوداني حسن فاروق نفسه ينتقل من ميدان الصحافة إلى حقول النخيل، ممسكا بمنجل بدلا من القلم، بعدما فقد وظيفته إثر اندلاع حرب 15 أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع التي شردت آلاف الصحفيين وأطفأت صوت الكلمة الحرة في السودان.

متمسكا بعبارته الشهيرة “تسقط ثالث”، رفض فاروق السقوط في بئر العطالة، ليبدأ فصلا جديدا في حياته كعامل يومية في موسم حصاد التمر، مجسدا بواقعه مأساة جيل كامل من الصحفيين الذين هدمت الحرب بيوتهم ومؤسساتهم، لكنها لم تكسر إيمانهم بقيمة العمل وكرامة المهنة.

قصة فاروق ليست استثناء لكنها مرآة لواقع مؤلم يعيشه المئات من زملائه الذين اضطروا للعمل في المخابز والمزارع والطرقات بحثا عن لقمة العيش، بعد أن تحولت الصحافة في السودان من “مهنة المتاعب” إلى مهنة مستحيلة.

وفي الوقت الذي تتهاوى المؤسسات الإعلامية وتتراكم الانتهاكات ضد الصحفيين، يظل الأمل معلقا على عزم من لم يتخلوا عن رسالتهم، حتى وإن حملوا اليوم معول العامل بدلا من قلم الصحفي.

فاروق الذي كان يكتب في الصحف ويقدم برنامج “زمن إضافي” اليومي في إذاعة هلا 96 وجد نفسه مضطرا للمغادرة مع أسرته من منزله بحارة الصحفيين في مدينة الثورة مسبوقا بتوصيف نازح مثل ملايين السودانيين في حرب لم تفرق في انتهاكاتها بين الجميع فهم شركاء في المعاناة بحسب ما يقول فاروق الحرب التي لم يكن لنا فيها يد تصطاد رصاصاتها الكل.

ينتهي المقام بالصحفي الملتزم جانب مهنتيه ومواقفه إلى نازح بالولاية الشمالية ليجد صاحب عمود “أصل الحكاية” نفسه في مواجهة محمول العبارة “جزء من ملامح نضجنا هو تقبلنا لأمور كنا نتمنى ألا تكون حقيقية”.

يخبر فاروق متابعي صفحته عبر موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” الحكاية وبمنتهى البساطة “لقيت شغل كعامل يومية في موسم حصاد التمر (حش التمر) وهو عمل موسمي مرتبط بفترة الحصاد ممكن أسبوع أو عشرة أيام حسب ما هو متوفر”.

يضع فاروق صوره في مهنته الجديدة في ذات المنشور ويكمل العمل قيمة في حد ذاته بغض النظر عن الظروف المحيطة يكمل فاروق صحيح عشنا وضعا مأساويا كنازحين بسبب الحرب ولأشيء أمامك لأشيء، فقدنا كل شيء نعيش على الانتظار انتظار المجهول، لا يمكنك أن تعرف قيمة العمل ولو هامشي إلا بعد أن تعيش فترة كاملة العطالة وسط نزوح وضغوط رهيبة، ها أنت تعود لتصنع لنفسك شيئا من التوازن ولو إلى حين.

حسن الذي تحول إلى “لقاط التمر” يبدو سعيدا بمهنته الجديدة المؤقتة حيث يجد الصحفي الاشتراكي نفسه مضطرا لترديد أمنيات الشاعر حميد بلسان العم عبد الرحيم “يا ريت التمر لو يشيل كل تلات شهر لا أيام زمان كانت ما تمر كان ما جاك هوان ما لاقاك ضر كان لا ضقت ضيق .. لا انغرغر صبر لا شابيت غريق لا طوح فقر”.

الضيق الذي عاشه فاروق واجه كثير من الصحفيين السودانيين حيث وجدوا أنفسهم في مجابهة واقعا شديد التعقيد بعد فقدان وظائفهم، وعانوا متاعب حقيقية بعد أن كانوا يعتقدون لوقت طويل بأن الصحافة وحدها هي “مهنة المتاعب”، بينما وجدوا أن المهن الأخرى التي اضطر بعضهم للعمل بها، مثل طواحين الحبوب، وأفران الخبز، وزراعة البصل، ومصانع الثلج، وبيع الأطعمة والخضروات في الطرقات، أشد تعبا.

لقاطة تمر، باعة في الأسواق، وعمال بناء وفي المخابز “حمالين” يدفعون أمامهم “الدرداقات” في أسواق الخضر مثلما حدث مع الصحفي عبد العليم مخاوي في كوستي ومحجوب حسون في جوبا جنوب السودان وذلك من أجل إعالة أسرهم في زمان اللجوء والنزوح.

صورة الصحفي حسن فاروق الذي امتدت خبرته لحوالي عقدين من الزمان من أقاصي الشمال تضعك أمام حقيقة وواقع قطاع الصحافة الذي يعيش حالة من الشلل التام، إذ تشير التقديرات إلى أن نحو 1,000 صحفي فقدوا وظائفهم نتيجة إغلاق المؤسسات الإعلامية أو تدمير مقارها، فيما لا يتلقى سوى 23٪ من الصحفيين رواتب منتظمة.

وفي استطلاع شمل 213 صحفيا أجرته منظمة دولية عام 2024، أفاد 90٪ منهم بتعرضهم لتهديدات نفسية، بينما أبلغ 53٪ عن تعرضهم لاعتداء جسدي أثناء أداء عملهم أو بسبب مهنتهم.

وبحسب تقارير دولية، فإن 90٪ من البنى التحتية الإعلامية في السودان أصبحت خارج الخدمة، سواء بفعل التدمير أو انعدام الأمن أو نقص الوقود والطاقة، مما جعل بيئة العمل الصحفي في البلاد من بين الأسوأ عالميا.

ووفقا لتقرير صادر عن نقابة الصحفيين السودانيين، تم توثيق 556 حالة انتهاك ضد الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام منذ بداية الحرب وحتى مايو 2025، شملت القتل، الاعتقال، التهديد، الاعتداء، المصادرة، والتشريد القسري.

وسجل التقرير مقتل 31 صحفيا نتيجة أعمال عنف مباشرة أو قصف عشوائي أثناء تغطيتهم للأحداث أو بسبب استهدافهم من قبل أطراف النزاع، في وقت ارتفعت فيه وتيرة الانتهاكات ضد الإعلاميين بشكل غير مسبوق.

وأصل حكاية “فاروق” الذي وجد نفسه مجبرا على ترك مهنته والبحث عن مهنة بديلة هي حكاية “الحرب” التي لم تكتف بأن أطلقت رصاصتها الأولى على الحقيقة ومن ينقلونها بل استمرت في توجيه رصاصاتها بالتتابع على “الصحفيين” السودانيين عبر عمليات استهداف ممنهج.

المفارقة أنه وبالتزامن مع صور الصحفي السوداني الذي امتهن “لقيط التمر” كانت حكومة بورتسودان تحتفي بصور الصحفي اليمني أنيس منصور وزير الإعلام الذي قال إن خطة حكومة الأمل تمنعه من أن يكون لسان حال السلطة العاجزة يجد كامل وقته لتلميع صحافي مهووس بالشتائم والإثارة، فأنيس منصور ليس كاتبا موضوعيا، ولا صحافيا مستقلا كما يروّج له بعض موظفي الإعلام، بل هو صوت مأزوم امتهن الإساءة والتجريح للكل.

استقباله رسميا ذلك المشهد، في حقيقته، يلخص مأساة السودان اليوم، المأساة التي تحول فاروق وزملائه من الصحفيين المهمومين بالوطن وقضايا شعبه لممارسة مهن على الهامش لا يليق بها غير ترديد لازمة حسن نفسه “تسقط ثالث” وهو المؤمن بأن نخل البلاد سيلقي بمزيد من الثمار وأن غد هذه البلاد ضواي!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى