بقلم : أحمد عثمان محمد المبارك (موظف سابق في بعثة الأمم المتحدة في إقليم كوسوفو)
في الفترة ما بين عام 2003 و2005 عملت ضمن صفوف موظفي بعثة الأمم المتحدة في إقليم كوسوفو، والتي أُنشئت بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1244 لسنة 1999 بعد حرب التسعينات . وقد أتاح لي عملي هناك أن أشهد عن كثب كيف تحولت منطقة مزقتها الصراعات العرقية إلى كيان يتطلع إلى الاستقرار وبناء الدولة.
كانت تجربة كوسوفو ، كما رأيتها، نموذجاً فريداً من حيث إن قرار مجلس الأمن رقم 1244 (1999) لم يكن مجرد تفويض لحفظ السلام، بل كان تفويضاً لإدارة دولة بحكم الأمر الواقع.
في ظل المأساة التي خلفتها الحرب المستمرة في السودان لثلاث سنوات، ومع تواصل المساعي الحثيثة من القوى المدنية والمجتمع الدولي لوقفها وتحقيق السلام ، بات من الضروري استحضار تلك المعايير التي وضعتها الأمم المتحدة والتي أدت في النهاية إلى إستقرار إقليم كوسوفو . وهذا يقودنا إلى السؤال الجوهري حول ما هي الدروس المستفادة من تجربة كوسوفو؟ وكيف يمكن قراءتها لإنارة الطريق لنا في السودان لتحقيق الدولة المدنية الديمقراطية؟
لم تكتفِ بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو بالمراقبة وحفظ السلام فقط، بل نفذت أربع ركائز أساسية، التي في تقديري، إذا طُبقت بإرادة وطنية حقيقية ستحقق لنا السلام والاستقرار في السودان.
أولاً: الإدارة المؤقتة:
لقد كانت الأمم المتحدة هي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية بشكل مؤقت . هذه الإدارة الشاملة كانت ضرورية لملء الفراغ المؤسسي ومنع تجدد النزاع فوراً. لذلك علينا نحن في السودان أن ندرك أن الإنتقال الحقيقي يتطلب سلطة مدنية إنتقالية موحدة وقوية ومدعومة دولياً ، وإن أي صيغة يشارك فيها المتقاتلون اليوم لن تؤدي إلا إلى دورة جديدة من العنف .
ثانياً : الأمن أولوية قصوى :
كانت هناك قوة دولية ضخمة في كوسوفو تسمى (KFOR) أو Kosovo Force ، مخولة بسلطات واسعة لفرض الأمن . ولأن الأمن يجب أن يُعطى أولوية قصوى في أي عملية انتقالية، فإننا في السودان ، ولكي نحقق عملية انتقالية سلسة، لا بد من أن يُصاحب وقف إطلاق النار الفوري برنامج نزع سلاح وتسريح وإعادة إدماج شامل (DDR) يتم تنفيذه تحت إشراف دولي صارم، يهدف إلى توحيد القوات المسلحة لتكون جيشاً وطنياً واحداً خاضعاً بالكامل للسلطة المدنية. فلا يمكن تصور بناء دولة مستقرة في ظل وجود مؤسسات موازية للدولة تحمل السلاح .
ثالثاً : بناء المؤسسات :
ركزت بعثة “اليونميك” على إنشاء مؤسسات حكم انتقالية ، بما في ذلك الشرطة والقضاء، مما يؤكد أن الانتقال ليس مجرد توقيع اتفاق ، بل هو بناء مؤسسي عميق. وهذا ما نحتاجه في السودان : إصلاح جذري للقضاء، وتكوين شرطة مدنية حقيقية ، وضمان تمثيل عادل وشامل لجميع الأقاليم والمكونات في مؤسسات الحكم الجديدة .
رابعاً: العدالة وحقوق الإنسان:
كان تعزيز حقوق الإنسان وضمان أمن الأقليات من صميم تفويض بعثة الأمم المتحدة في كوسوفو . وهذا يعتبر درساً يمكن أن يستفيد منه السودان ؛ فالمصالحة الوطنية وبناء الثقة يتطلبان عدالة انتقالية ومساءلة عن الجرائم المرتكبة . لا سلام مستدام دون نهاية لثقافة الإفلات من العقاب .
الخلاصة:
تجربة كوسوفو لم تكن مثالية ، لكنها أثبتت أن التدخل الدولي الشامل الذي يهدف إلى نقل كامل للسلطة إلى المدنيين وبناء مؤسسات جديدة من الصفر هو الطريق الأمثل نحو الاستقرار.
وعلى القوى المدنية والشعب السوداني أن يدركا أنه لا يمكن استدامة السلام دون تفويض كامل لحكومة مدنية مؤقتة لبناء الدولة، مدنياً و أمنياً ، بعيداً عن أيدي الذين تسببوا في النزاع .