عمر الدقير في حوار مع “أفق جديد” : “صمود” وُلد لمواجهة حالة العجز والإنقسام 

لا توجد داخل التحالف مراكز قرار متوازية أو متعارضة

أفق جديد

في زمنٍ تتقاطع فيه رياح الحرب مع ركام الأحلام المؤجلة، وتتحوّل فيه الخرائط إلى جبهاتٍ متحركة من الدم والرماد، يظل السؤال الجوهري في السودان معلّقاً بين صوت البنادق وصدى النداء المدني: من يوقف النزيف؟ ومن يعيد للبلاد وجهها الذي عرفته قبل أن تبتلعها النيران؟

في هذا السياق المعقّد، تتصدّر القوى المدنية واجهة اللحظة التاريخية، وهي تواجه امتحان البقاء والموقف معًا. فمبادرة “الرباعية الدولية” التي جمعت الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات أعادت ترتيب المشهد، وأطلقت جدلاً واسعًا حول جدواها ومقاصدها، وحول ما إذا كانت مدخلًا إلى تسوية سياسية حقيقية أم محاولة جديدة لإعادة إنتاج موازين القوة القديمة بثوب دبلوماسي جديد.

الحوار مع المهندس عمر يوسف الدقير، رئيس حزب المؤتمر السوداني، وعضو المكتب التنفيذي للتحالف الوطني الديمقراطي لقوى الثورة “صمود”، ورئيس مكتب الاتصال السياسي بالتحالف، يأتي في هذا المنعطف الحاسم ليكشف عن ملامح الرؤية المدنية تجاه تلك التحركات الدولية، وليفتح نوافذ ضوءٍ على ما يدور في الكواليس من نقاشات وتباينات داخل القوى المدنية حول الموقف من الحرب ومن العملية السياسية الجارية.

يُقدّم الدقير في هذا الحوار إفادات جديدة حول سعي القوى المدنية إلى بناء جبهة مدنية عريضة قادرة على مخاطبة وجدان الناس، واستعادة زمام المبادرة السياسية، وفرض صوت السلام كقضية مركزية تتجاوز حسابات الأطراف المتحاربة. كما يطرح قراءة نقدية معمّقة لمبادرة الرباعية من حيث خلفياتها وحدود تأثيرها، محذّرًا من تحويلها إلى أداة لإدارة الأزمة بدلًا من حلّها.

ويمتاز الحوار بانفتاحه على الأسئلة التي تتجنّبها الخطابات الرسمية، إذ يقترب من جوهر الانقسامات داخل التيار المدني، ومن معضلة العلاقة مع الخارج، ومن مسؤولية النخب تجاه ما جرى للوطن بعد أن انهارت الدولة وتحوّلت حياة الناس إلى رهانٍ يومي بين الموت والجوع والنزوح.

إنها لحظة مراجعة وطنية بامتياز، تتطلّب من الجميع، كما يقول الدقير، أن يواجهوا الحقيقة بلا أقنعة: لا خلاص في الحرب، ولا مستقبل يُبنى على ركام الوطن. فالتاريخ، كما يؤكد، لا يرحم المترددين، والبلاد اليوم بحاجة إلى كلمة واحدة تخرج من ضميرٍ مدنيٍّ موحّد، تضع حدًّا للدم وتعيد فتح الطريق نحو الحرية والسلام والديمقراطية.

بعد أكثر من عام على انطلاق تحالف صمود، ما الذي يمنع القوى المدنية من أن تتوحد فعليًا تحت رؤية واحدة؟ هل هي خلافات فكرية أم حسابات سلطة؟

لا أعتقد أن ثمة ما يشغل القوى المدنية الديمقراطية اليوم أكثر من همّ إنهاء الحرب. فالجميع يتحرك بدافعٍ من المسؤولية الوطنية والضمير الحي، إدراكًا لحجم الكارثة التي يعيشها السودان. لكن التحديات قائمة بلا شك، بعضها يرتبط بطبيعة الحرب نفسها وما خلّفته من انقسامات على أسس متعددة، وبعضها الآخر يتصل بتباين الرؤى والتصورات حول الطريق الأمثل لإنهاء الحرب والخطوات اللاحقة لذلك.

نحن في حزب المؤتمر السوداني وفي تحالف صمود نعمل على تجسير الفجوات وتقريب وجهات النظر بين مختلف القوى المدنية، من أجل بناء أرضية مشتركة تجمع كل المؤمنين بالحل السلمي والتحول الديمقراطي. نؤمن أن وحدة هذه القوى هي المدخل الحقيقي لإنهاء الحرب وإستعادة الدولة المدنية، ولذلك نحن منفتحون على كل أشكال العمل المشترك لوقف الحرب، سواء عبر مظلة واحدة أو من خلال التنسيق في أيٍّ من مجالات تحقيق هذه الغاية.

محطات ومنعطفات

هناك من يقول إن صمود تحوّل إلى مظلة للنخب السياسية القديمة، لا إلى جبهة مدنية جديدة كما وعدتم. هل ما زال المشروع حيًا أم أنه يترنّح تحت ثقل الخلافات والتناقضات؟

تحالف صمود مرّ بمحطات ومنعطفات عديدة، وهذا طبيعي في مسار أي تحالف مدني وطني يعمل وسط هدير البنادق وإختناق الفضاء المدني برائحة البارود وكل الظروف الاستثنائية التي تفرضها الحرب من تشريدٍ وتهجيرٍ وإنقسامٍ سياسي واجتماعي.

نحن لا نسلك طريقاً مفروشاً بالورود، بل نواجه يومياً إستهدافاً ممنهجاً من القوى الساعية لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولو كان الثمن تدمير الوطن ومعاناة شعبه من كارثة إنسانية هي الأسوأ في عالم اليوم.

ومع ذلك، إستطاع تحالف صمود تجاوز كثير من العقبات لأن ما يجمعه أعمق وأسمى من التباينات الثانوية. يجمعنا هدف إنهاء الحرب ورفع المعاناة عن شعبنا عبر موقفٍ مدني مستقل. وما دام هذا الهدف مشتركًا، تبقى بقية التباينات ثانوية يمكن معالجتها بالحوار والنقاش.

لم تتوقف مساعينا عن توسيع دائرة صمود وبناء جبهة مدنية أوسع قادرة على إيقاف الحرب وفتح الطريق نحو سلامٍ وتحولٍ ديمقراطي حقيقي.

ما طبيعة الحوار الجاري مع حزب البعث؟ هل وصل إلى إتفاقات ملموسة أم ما زال في مستوى “التفاكر”؟ وماذا عن التحفظات التي أبداها بعض قيادات صمود تجاه فكر الحزب ومواقفه من التحول الديمقراطي؟

النقاش مع حزب البعث لم ينقطع، والمسافة بيننا ليست كبيرة. نحن نتشارك أرضية وطنية واحدة تقوم على إنهاء الحرب وإستعادة المسار الديمقراطي، وإن اختلفنا في بعض التفاصيل المتعلقة بالوسائل والآليات.

أما القول بوجود تحفظات داخل صمود تجاه فكر البعث فغير دقيق، فتنوع الرؤى داخل التحالف دليل على مرونته وقدرته على إستيعاب الإختلاف.

الحزب الشيوعي اتخذ موقفاً متصلباً من أي تحالف مدني يضم قوى كانت قريبة من الجيش. هل أُغلقت الأبواب بينكم نهائياً أم ما زال هناك خيط تفاهم ممكن؟

توصيف “قوى قريبة أو بعيدة من الجيش أو غيره” لا ينطبق على المكونات داخل تحالف صمود، وإلا لكان من الطبيعي أن تنضم هذه المكونات إلى أحد الأطراف العسكرية.

نحن نؤمن أن الموقف المدني الحقيقي هو موقف مستقل، مناهض للحرب ورافض لمشروعيتها، وفي الوقت ذاته منفتح على التواصل والحوار مع أطرافها ومع مختلف القوى الوطنية، من أجل الدفع نحو حل سياسي شامل يُقدّم مصلحة الوطن على أية حسابات أخرى.

وبهذا الفهم، لم نغلق الباب أمام التواصل مع الحزب الشيوعي أو أية جهة مدنية تسعى لوقف الحرب والمشاركة في بناء مسار وطني جامع نحو سلامٍ مستدامٍ وتحولٍ ديمقراطي حقيقي.

نقاشات مستمرة

هل وجدتم لدى حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور استعدادًا للدخول في عملية سياسية أم أنه ما زال يراهن على مشروع “المقاومة الثورية”؟

نعم، هناك نقاشات مستمرة مع حركة/جيش تحرير السودان بقيادة القائد عبد الواحد محمد نور، وهم يتعاملون معها بروح إيجابية وانفتاح واضح تجاه فكرة توحيد الجهود المدنية المناهضة للحرب.

نحن في صمود ننظر إلى هذا الحوار باعتباره جزءًا مهمًا من مساعي الربط بين كل القوى الوطنية التي ترفض الحرب وتؤمن بضرورة العمل المشترك من أجل سلامٍ عادل وتحولٍ ديمقراطي حقيقي، ونتطلع أن تثمر هذه المناقشات قريبًا عن خطوات عملية تصب في هذا الاتجاه.

تُتَّهمون بأنكم فشلتم في بناء هيكل تنظيمي واضح لتحالف صمود، وأن بعض القوى الموقعة أصبحت غائبة عن القرار. هل يمكن القول إن صمود يعيش أزمة قيادة؟

من المبالغة وصف النقاش حول الهيكلة بالفشل، فهو في حقيقته جزء من عملية تطوير داخلية هدفت إلى تعزيز كفاءة تحالف صمود ومرونته. مثل هذه النقاشات طبيعية في أي تحالف مدني متنوع، ومن المهم الإشارة إلى أنها لم تؤثر على فاعليته، إذ واصل أداء دوره السياسي والمدني بصورة منتظمة.

الهيكل الجديد الذي بدأ العمل به يعكس نضجاً أكبر في التنظيم وإستعداداً أوضح لتوسيع المشاركة وتحسين الأداء الجماعي. أما الحديث عن أزمة قيادة أو غياب بعض القوى فغير دقيق، فصمود يقوم على القيادة الجماعية وآليات تشاركية تتيح تداول المسؤوليات بروح الفريق الواحد والهدف المشترك، لا بروح الهيمنة أو الفردية، وهو ما يفسّر قدرته على الإستمرار رغم تعقيدات المرحلة.

هل يملك صمود الآن مركز قرار واحد؟ أم أن هناك “صمود الخرطوم” و”صمود الخارج” و”صمود الأحزاب”؟

صمود كتحالف هو كيان واحد بخط سياسي وتنظيمي موحّد، لا توجد داخله مراكز قرار متوازية أو متعارضة. الرؤية السياسية والخط العام المعتمدان هما المرجعية التي يستند إليها الجميع في مواقفهم وتحركاتهم.

وفي الوقت نفسه، تمتلك المكاتب المنتشرة في الخارج مساحة من الحرية في تنظيم نشاطها بما يتناسب مع خصوصية السياق الذي تعمل فيه، لكن ضمن الإطار العام للرؤية السياسية المجازة، وليس بمعزل عنها أو خارجها. هذا التوازن بين الموقف المتفق عليه والمرونة في التنفيذ هو ما يمنح صمود حيويته وقدرته على التفاعل مع واقع السودانيين أينما وُجدوا.

رؤية ثلاثية

الإتحاد الأفريقي والرباعية الدولية يتحركان لإنهاء الحرب، لكن بعض القوى المدنية تشكك في نوايا هذه المبادرات وتتهمها بإعادة تدوير الإنقلاب. أنتم في صمود، كيف تنظرون إلى هذه التحركات؟ هل تمثل فرصة أم فخاً سياسياً؟

ننظر بجدية إلى التحركات الجارية من الاتحاد الأفريقي والرباعية الدولية، ونرى فيها فرصة للمساعدة في إنهاء الحرب متى ما إلتزمت بمبدأ القيادة والملكية السودانية للعملية السياسية، وبالحرص على شمول كل القوى المدنية المؤمنة بالسلام والتحول الديمقراطي.

قدمنا رؤيتنا للوساطة عبر ثلاثة مسارات متكاملة: المسار الإنساني، ووقف إطلاق النار، والحوار السياسي لمعالجة جذور الأزمة، مؤكدين ضرورة توحيد الجهود الدولية والإقليمية لتجنب تعدد المنابر وتضارب المبادرات. كما اقترحنا خطوات تقوم بها جميع الأطراف لبناء الثقة وتوفير بيئة ملائمة لعملية الحل السياسي برمتها.

ومع تقديرنا العالي لكل الجهود الإقليمية والدولية، فإننا نؤمن أن الحل الحقيقي يظل بيد السودانيين أنفسهم، ومرهون بتوحيد إرادتهم الغالبة والطامحة للسلام لهزيمة خطاب الحرب الذي لا يجلب سوى مزيدٍ من المعاناة لشعبنا. فالحل السياسي، لا العسكري، هو طريق الخلاص من ويلات الحرب، والمدخل لتحقيق التعافي الوطني وبناء المستقبل المنشود.

ومن هذا المنطلق، نتعامل مع هذه المبادرات لمساعدتنا في عبور أزمة بلادنا، مع تمسكنا بأن تكون العملية سودانية الإرادة والمضمون، تعالج جذور الأزمة وتمنع تكرارها.

هل أُجريت اتصالات مباشرة بين تحالف صمود وممثلي الرباعية – خصوصاً واشنطن أو الرياض – لتنسيق المواقف؟ وما الذي عُرض عليكم تحديداً؟

نعم، هناك إتصالات مباشرة بين صمود وعدد من ممثلي دول الرباعية. سبق أن وجّه التحالف خطابات رسمية إلى وزراء خارجية الرباعية تضمنت مقترحات تفصيلية حول العملية السياسية.

نشعر بقدر كبير من الرضا إزاء ما ورد في خارطة طريق الرباعية الأخيرة، لأنها في جوهرها تلبي تطلعات قطاعات واسعة من الشعب السوداني، وتنسجم مع الرؤية التي ظلت صمود تدافع عنها منذ تأسيسها، وهي إنهاء الحرب ووقف معاناة المدنيين والانتقال نحو مسار وطني ديمقراطي.

كيف تقيّمون اللجنة السياسية التي شكّلها الفريق البرهان؟ هل هي بداية لتسوية جديدة مع المدنيين أم محاولة لتفكيك المشهد السياسي المدني عبر الإغراءات والمناورات؟

حتى الآن، لم يتم أي تواصل بين صمود وهذه اللجنة، ومن المبكر إصدار حكم نهائي بشأنها. لكننا نؤكد أن أي جهدٍ مبذول للمساهمة في وقف الحرب والوصول إلى سلامٍ حقيقي وشامل، سيكون موضع ترحيبٍ من جانبنا.

المعيار الأساسي بالنسبة لنا للتعاطي مع أي مبادرة هو أن تصب في مسار إنهاء الحرب وإعادة المسار المدني الديمقراطي.

نسمع عن إتصالات بينكم وبين مجموعة “تأسيس”، هل هذه الخطوة تحظى بدعم صمود بالكامل؟ وإلى ماذا تهدف؟

إتصالاتنا مع مختلف القوى السياسية لم تتوقف، و”تأسيس” بالتأكيد أحد الأطراف الرئيسية في المشهد السياسي الراهن. نحن نؤمن بأن إستمرار الحوار بين القوى المدنية ضرورة لا خيار، لأن الهدف المشترك للجميع يجب أن يكون إنهاء الحرب والتوصل إلى سلامٍ مستدامٍ يُعيد للسودانيين وحدتهم وثقتهم في العمل المدني الديمقراطي.

لذلك، فإن تواصلنا مع “تأسيس” ومع غيرها من القوى يأتي في إطار هذا الجهد.

إذا إستمرت الحرب وتعددت “السلطات” في الأقاليم، هل أنتم مستعدون للتعامل مع تلك الحكومات أو “السلطات” كأمر واقع؟

استمرار الحرب بالضرورة يقود إلى خطر تقسيم السودان، وواقع تعدد السلطات لا يعني سوى تكريس هذا الخطر. نحن في صمود نرفض أي فعل أو قول يمكن أن يفضي إلى تفتيت البلاد أو شرعنة الانقسام.

موقفنا واضح: لا شرعية لأي من هذه السلطات المتنازعة، فالشرعية غابت منذ إنقلاب 25 أكتوبر. ونحن نعمل من أجل إستعادتها عبر عملية سياسية وطنية جامعة تُعيد بناء الدولة على أساس مدني ديمقراطي يعبر عن إرادة الشعب، لا عن موازين القوة على الأرض.

بعد كل هذه الجولات واللقاءات، هل يمكن القول إن تحالف صمود ما زال يمتلك القدرة على أن يقود التحول الديمقراطي، أم أنه أصبح جزءًا من ضجيج سياسي لا يغيّر شيئاً في مسار الحرب؟

تحالف صمود ليس جزءاً من الضجيج السياسي، بل وُلد لمواجهة حالة العجز والإنقسام التي عطلت الفعل المدني والديمقراطي. خلال الأشهر الماضية، أثبت التحالف قدرته على البقاء في وجه الحرب ومحاولات تهميش الصوت المدني، وتمكّن من إبقاء فكرة الحل السلمي حية حين كانت لغة السلاح طاغية.

قوة تحالف صمود تكمن في كونه فضاءً حياً يجمع قوى ديمقراطية متعددة حول هدفٍ واحد: إنهاء الحرب وبناء بديلٍ مدني ديمقراطي. قدرته على المساهمة في قيادة التحول الديمقراطي تُقاس بمدى نجاحه في توحيد الصف المدني واستعادة ثقة الناس في قدرتهم على صياغة مصيرهم.

لو طُلب منك أن تختصر في جملة واحدة ما الذي يريده تحالف صمود تحديداً في هذه المرحلة، فماذا تقول؟

نريد أن نجعل من هذه الحرب نقطة نهاية لمسيرة الفشل والخيبات والمآسي، وبدايةً لنهضةٍ شاملة.. نريد المحافظة على وحدة وطننا وخلاص شعبنا من الكارثة الإنسانية، وطي صفحة الحروب عبر التوافق على عقدٍ إجتماعي يُوحِّد السودانيين والسودانيات ويحشد طاقاتهم لبناء وطنٍ جديد، يُوفِّر لهم شروط الحياة الكريمة بلا تمييزٍ ولا تهميش.

Exit mobile version