حكاية من بيئتي.. ببراكا لي الجبراكة
بقلم :محمد احمد الفيلابي
سبقها ضحكتها المجلجلة وهي تلج إلى باحة الدار الفسيحة ، تحمل إناءً مصنوعاً من سعف النخيل مملوءاً بالخضروات الطازجة من إنتاج مزرعتها المنزلية . وضعته قبالتي لتحدثني في فرح أنها إستجابت لفكرة زراعة الخضروات في منزلها كمصدر دخل ثابت مع الإكتفاء الذاتي، وهي الآن تروّج للفكرة (عملياً)، وتبيع جيرانها خضروات عضوية، ونطقتها في ثقة وفرح بالإنجليزية (أورقانيك).
وحين قرأت في وجهي السؤال إستدركت:
ــ إتعلمت مع النسوان النازحات في المدرسة، وزرعت حوشي وحوش خالتي فطين…
وفجأة (علا صوتها) حين جاءها النداء من الخارج:
ــ تعالي يا أم ضي.
وكعادتها في إستغلال لحظات الدهشة التي تصنعها في الآخرين، همست لي:
ـ أم ضي دي النازحة أخت حامد الطحّان.. ديل كم سنة وهي تساعد النسوان في الخدمة، وما في زولة ولا زول عارف عنها شي.. هسّي هي البتدرب النسوان في المدرسة عشان يزرعن، ودربتني أنا ذاتي.
دخلت أم ضي، لا كما كنت أراها قبلاً منكبةً على (طست) الغسيل، أو توقع بمكنستها في (دربة) على كل شبر في حوش بيتنا، وهي تدندن بما لا يصلك منه سوى نبرة الحزن الدفين.
باغتتها هذه قبل أن تنفلت إلى الداخل بما تحمل:
ــ كلمي الأستاذ نحن قاعدات نسوي شنو؟
ترددت (أم ضي) قبل أن تستجيب لدعوتي فتسحب الكرسي لتجلس قبالتي وتحكي.
كان قدومها قبل 18 عاماً إلى القرية في صحبة أسرتها، هرباً من جحيم الحياة في طرف المدينة الكبيرة لسنوات، بعد أن نزحوا من هناك على أثر إندلاع الحرب. وكان من حظها أن أخاها قد سبقهم إلى هنا ليعمل في طاحونة أحد أبناء القرية من التجار أصحاب العلاقة بتلك الديار. وحين علم (الجلابي) بما حدث لهم، طلب من (حامد) أن يأتي بمن تبقى من أسرته. كانت وأختها الكبرى تعملان ما تستطيعانه لمساعدة شقيقهما في إعالة أمه وأبناء أخته الذين فقدوا أباهم في الهجوم على قريتهم هناك. ولكنها، بجانب ذلك، كانت تزرع مساحة صغيرة من الفناء مثلما كانت تفعل هناك، إذ كانت تساعد أمها في زراعة جبراكة الأسرة.
وقبل أن تكمل (أم ضي) حكايتها، جاءتها الجارة المنتشية بالتحوّل الذي حدث في حياتها، وإقتادتها من أمامي على وعد بإكمال الحكاية فيما بعد.
ــ هذا موعد العمل مع النساء في المدرسة.
وتركنني أجهد في إستعادة ملامح هذه التي كنت أعرفها جيداً مثالاً للنساء القانعات، يزرفن من الدموع أكثر مما ينطقن من حروف. وأقارن الصورة القديمة بهذا الذي رأيته هذا الصباح. ونظرت في الركن القصي من الفناء وخللته مزروعاً بالجرجير، وتشرئب فيه سيقان البامية والملوخية والطماطم، وربما بعض قصبات الذرة الشامي، والفراشات يحلقن فوق الأزهار. وتساءلت في نفسي (لِمَ لا؟) ولعل السؤال خرج مسموعاً، فقد علقت زوجتي وهي تضع أمامي كوب القهوة:
ــ الحرب خلتك تكلم روحك ولّا شنو؟
ضاحكتها، ورشفت رشفة من قهوتي وأنا أدعوها للجلوس على ذات الكرسي الذي كانت تشغله (أم ضي)، مقرراً الانتقال بها من رصيف الانتظار القاتل منذ مجيئنا إلى هنا إلى الرصيف الآخر.
وكان دخول هاتين المرأتين قد أحدث في نفسي وفيها الكثير. وإكتشفت أن ذات الفكرة قد سكنت فيها كما ينبغي، فجعلت من الأتيان بالقهوة فرصةً ومفتاحاً للحوار، إذ كان يمكن أن ترسلها لي مع أي من الصبايا.
لم يدم الحوار كثيراً، فبجانب إستحسان فكرة أن تذهب هي إلى هناك لتتعلم شيئاً عن الزراعة المنزلية، فقد اقترحت أن تحدث النساء في مجال عملها (الإصحاح البيئي). بل، إنتزعت مني وعداً بتقديم بعض المحاضرات القصيرة حول (إدارة الموارد) للناس في المدرسة وخارجها، ينظمها الشباب. وختمت في فرح طفولي:
ــ ولن تجلس هكذا مع الهاتف، ستعمل معي في جبراكتنا الخاصة.
الجبراكة لغوياً تشير إلى جَبْر الشيء وإصلاحه، فالطبيب يجبر العظام المكسورة. ويذهب المعنى أبعد إلى جبر الخواطر، أي إرضاء من يحتاج العون على سد حاجته بكرامة. ولعل المضمون عند أهل دارفور وكردفان في غرب السودان يعني إرضاء النساء المغلوبات على أمرهن، حين يُجبر خاطر المرأة اقتصادياً، بتمليكها مزرعة صغيرة حول المسكن (جُبراكة)، فتقوم الواحدة منهن بجبر كسر نفسها، فتعمل وتنتج ما يقيها وأسرتها شر الجوع.
فـ(الجبراكة) وتجمع (جباريك)، هي من أشكال الاكتفاء الذاتي في زمن العوز والحاجة، حيث تزرع المحاصيل سريعة الإنتاج كالخضار والذرة الشامية والتبش والشمام وغيرها من المحاصيل الإسعافية، قبل قدوم وقت حصاد المحاصيل النقدية كالفول السوداني والسمسم والذرة. وفي الجبراكة يتدرب أفراد الأسرة على كسب الخبرات الزراعية التي يحتاجونها في مزارعهم الكبيرة. ويُلجأ إلى هذا النهج في الكثير من الأحيان لتخفيف آثار الحرب والنزاعات عن الأهالي وخلق حالة من الاكتفاء الذاتي.
ورغم أن الجُبْراكة غالباً ما تكون صغيرة المساحة، إلا أن معدل إنتاجها يكون عالياً كماً وجودةً، وذلك نسبة لخصوبة الأرض حول المنازل التي دائماً ما تكون تربتها مخصبة بالسماد الطبيعي، بفضل روث البهائم التي لا غنى لإنسان تلك المناطق عنها.
وتقول خبيرة الأمن الغذائي الأستاذة سلمى راشد:
“إنه إلى جانب الغذاء، توفر الجُبْراكة القليل من النقود لتغطية مستلزمات الأسرة، وما تتقاصر عنه عائدات الزراعة من النقود يغطيه بيع الحيوانات التي تشارك المزارعين سُكناهم. ودرج الريفيون هناك على تربية الأغنام والقليل من المواشي والدواجن لأغراض تنويع الغذاء والبيع، بالإضافة إلى الحمير التي يُستفاد منها في النقل والتنقل والبيع عند الحاجة، علاوة على استخدامها في بعض العمليات الزراعية كحراثة الأرض وتسويتها.”
ويقول الخبير الدكتور عبد اللطيف عجيمي:
“إن الدراسات الأنثروبولوجية أكدت أن المرأة هي صاحبة الفضل في اكتشاف الزراعة، من خلال جمعها للبذور والحبوب والجذور وثمار الفاكهة البرية حول المنزل، في الوقت الذي يذهب فيه الرجل للصيد ومطاردة الحيوانات والفرائس. وعند ملاحظتها أن البذور التي تسقط منها تنبت بفعل المطر، راحت تجمعها وتنثرها في الخريف، لتصبح بهذا الفعل أول ضامن للأمن الغذائي.”
وحتى الآن تمارس المرأة الزراعة في المناطق الريفية، غير أن الحياة الحضرية أبعدتهن عن هذا النشاط. ومؤخراً، وفي خضم الترويج للعودة إلى الطبيعة والحياة الطبيعية، بدأ التبشير بالزراعة المنزلية يشغل المهمومين بالأمن الغذائي والغذاء الآمن.
ما حدث هنا يمكن أن يكون قد حدث في مناطق كثيرة، فقد تم استقبال الكثير من الأسر النازحة في مباني المدارس. ولأن المدارس القديمة شُيّدت على مساحات واسعة بهدف المزج بين التعليم الأكاديمي والتعليم الحياتي، فقد تهيأ لعدد من أصحاب وصاحبات الإدراك أن يبادروا بغرس فكرة الزراعة المنزلية هنا وهناك. وتحدثنا تجربة الأستاذة انتصار عبد الرحمن في حلفا الجديدة، وتجارب أخرى عن مزيد من النجاحات التي تحققت، فبجانب توفير الغذاء وبيع ما يزيد عن الحاجة، هناك الأثر النفسي الإيجابي. فقد أصبح للنساء دورهن المحوري بدلاً عن الجلوس على رصيف انتظار وقف الحرب، ما عزّز روح التضامن فيما بينهن، وجعل من كل دار إيواء أسرة واحدة في مواجهة الأزمة.
بعد أيام طويلة منذ ذلك الصباح، صارت (أم ضي) تقدم لنا (دروس خصوصية) كما أسميناها، في منزلنا، بجانب الدروس التي تقدمها للنازحات والنازحين في مدارس القرية الثلاث. حتى أنها صارت تنثر الفرح والتعافي أينما حلّت، وهي التي كانت تحس صفة (النازحة) كما الوصمة، أما وقد شاركتها الصفة الآلاف وربما الملايين من النساء، فقد أحست أن عليها أن تفعل ما هو موجب تجاه من دخلن معها حظيرة النزوح القسري.
ذات صباح، ضبطتها تدندن بذلك اللحن القديم، حين كانت تقوم بحصاد حبات البامية من جبراكتنا. سألتها عن مضمون الأغنية، فكسا وجهها الخجل، لكن وبعد إلحاحي حدثتني عن قصة بداية نزوحهم من قريتهم، تاركين خلفهم كل حياتهم وذكرياتهم ومواردهم الشحيحة، التي كانت تكفل لهم البقاء على قيد الحياة في كرامة. وأنها حين جاءت إلى هنا آثرت أن تفعل ما تجيده من زراعة ومساعدة نساء القرية في أعمالهن المنزلية.
لم يكن أحد يدرك أنها حين تغسل الملابس إنما كانت تغسل أحزانها، وحين تكنس إنما كانت تكنس عن نفسها موجات الأسى، وهي تردّد بصوت غير مسموع أغنيتها الأثيرة:
بكي وبنوح واطراكا
وحديثي داك معاكا
يا بيتنا والجبراكة
بسكت وامِش باراكا
قالت إنها لم تعد تدري شيئاً عن مصير ابن عمها المنتظر، إذ يمكن أن يكون قد قُتل، أو أنه ضيّع حلمهما مثلما ضاع منها العمر. فها هي السنوات تمر دون أن يحدثها عنه أحد، وفي المرة الوحيدة التي حاولت فيها استنطاق شقيقها حامد، أسكتتها الدموع وقد تدحرجت كرات بيضاء بفضل غبار الدقيق الذي يغطي وجه (الطحّان)، اللقب الذي التصق به بعد أن امتلك الطاحونة والمنزل الذي تشغله أسرته.
ومنذ ذلك اليوم البعيد، انكفأت (أم ضي) إلى داخلها، وانكبّت على جبراكتها الصغيرة التي لم تلفت أحداً إلا بعد أن وصلت جموع النازحين والنازحات، وبدأت نساء القرية ينتظمن في زيارتها لتلقي المعارف، وليغمرنها بما افتقدته زمناً طويلاً من إحساس الآخرين بها.
وإلى اللقاء في حكاية جديدة من بيئتي.