رهف الأمين الطيب الأولى على مستوى السودان
بإجراءات إستثنائية إعلان نتائج الشهادة السودانية
أفق جديد
بمشهدٍ أقرب إلى اللقطة الإفتتاحية في فيلمٍ سياسيٍّ مشحونٍ بالغموض، تلقّى الصحافيون في بورتسودان بلاغاً عاجلاً يطلب منهم الإستعداد لتغطية “حدث جلل” سيُعلن. لم يُكشف عن ماهيته، ولم يُسمح لأحد بطرح الأسئلة. نُقلت الحافلات التي تقلّ الإعلاميين إلى نقاط تجمع محددة، حيث طُلب منهم تسليم هواتفهم المحمولة، وسط صمتٍ مهيب وإجراءاتٍ أشبه بتلك التي ترافق القرارات المصيرية أو الإعلانات الكبرى في تاريخ الدول. إرتفعت التوقعات، وتخيّل البعض أن البلاد مقبلة على إعلانٍ سياسيٍّ ضخم، أو ربما مبادرةٍ لإنهاء الحرب.
لكن حين إرتفع الستار أخيراً، تبيّن أن “الحدث الجلل” الذي أحيط بكل تلك السرية لم يكن سوى إعلان نتيجة الشهادة الثانوية المؤجلة لعام 2024. عندها تداخلت مشاعر الدهشة بالإبتسامات المكتومة، حين ظهر وزير التربية والتعليم الوطني الدكتور التهامي حسن حجر ليعلن، بوجهٍ تغمره الجدية والرضا، أن نسبة النجاح بلغت 68.5%، وأن طالبةً من مدرسة القنصلية السودانية بأسوان تُدعى رهف الأمين الطيب حصدت المركز الأول بنسبة 97%.
هكذا تحوّل اليوم الذي بدأ كأنه بوابة على “حدثٍ وطنيٍّ كبير” إلى لحظةِ فرحٍ تربويٍّ خالصة، إمتزج فيها الطابع الدرامي بالإحساس العميق بأن في هذا البلد، حتى إعلان نتيجة طلابٍ يمكن أن يُصاغ كما لو كان بياناً مصيرياً في زمن الحرب.
وخلال مؤتمرٍ صحفيٍّ عقده وزير التربية والتعليم الوطني الدكتور التهامي حسن حجر بمقر الوزارة، أوضح أنّ الوزارة واجهت تحدياتٍ كبيرة في تنظيم الإمتحانات لهذا العام، خاصة مع إستمرار النزوح الواسع للطلاب وتشتت المراكز بين الداخل والخارج، إلا أنّ الجهود التي بذلتها لجان الإمتحانات والإدارات التعليمية أسفرت عن إكمال العملية بنجاح، مع الحفاظ على النزاهة الأكاديمية والمعايير الفنية.
تفاصيل النتائج وأوائل الشهادة
كشف الوزير التهامي أنّ الطالبة رهف الأمين الطيب من مدرسة القنصلية السودانية بأسوان تصدّرت قائمة الأوائل بنسبة نجاح 97%، لتكون بذلك مثلاً لتفوّق طلاب الخارج رغم ما يواجهونه من تحديات الإغتراب والظروف النفسية الصعبة. أما المركز الثاني فقد أحرزه الطالب مؤيد الصادق علي الأمين من مدرسة أبو ذر الكودة بنسبة 96.4%، في إنجازٍ يعكس إستمرار روح المثابرة وسط الطلاب رغم قسوة الظروف.
وأشار الوزير إلى أنّ عدد مراكز الامتحانات بلغ 2018 مركزاً داخل وخارج السودان، شملت دولاً عدة من بينها مصر، وتشاد، وإثيوبيا، والسعودية، وجنوب السودان، مؤكداً أن الوزارة وضعت ترتيبات دقيقة لتأمين الإمتحانات وتسهيل أداء الطلاب في المهجر، في إطار سياسة «التعليم للجميع» التي تبنّتها منذ إندلاع الحرب.
أرقام ودلالات
بحسب الإحصاءات التي أعلنها الوزير، بلغ عدد المسجّلين للإمتحان 222,393 طالباً وطالبة، فيما جلس فعلياً 193,809، أي أن نحو ثلاثين ألف طالب لم يتمكنوا من أداء الامتحان لأسبابٍ تتعلق بالنزوح أو الأوضاع الأمنية أو عدم توفر المراكز في مناطقهم.
وحقق النجاح 132,817 طالبًا وطالبة، وهو رقم وصفه الوزير بأنه «مؤشر إيجابي» بالنظر إلى حجم المعاناة التي شهدها العام الدراسي. وبيّن أن نسبة النجاح الأعلى جاءت في القسم الأكاديمي بنسبة 98.5% من الجالسين، تلاه القسم الديني بنسبة 80.5%، ثم القسم الفني بنسبة 65.8%، وهو ما يعكس تفاوت مستويات التحصيل بين المسارات المختلفة.
وأوضح الدكتور التهامي أنّ الوزارة رصدت تحسّناً طفيفاً في نتائج المواد العلمية مقارنة بالعام السابق، بينما ظلت المواد الأدبية تشهد تفوقاً ملحوظاً، مشيراً إلى أنّ الوزارة تعمل على تحديث المناهج وإعادة النظر في طرق التقويم لتقليل الفوارق بين المسارات.
التحديات اللوجستية
وأكد الوزير أنّ تنظيم إمتحانات هذا العام كان من أصعب المهام في تاريخ الوزارة الحديث، إذ اضطرت فرق المراقبة والتصحيح إلى العمل في ظروفٍ أمنيةٍ بالغة الصعوبة، مع إنقطاع الكهرباء والاتصالات في بعض المناطق، وتوزّع الطلاب في مخيمات النزوح والدول المجاورة.
وأضاف أن الوزارة إستعانت بمكاتب الأمم المتحدة والمنظمات التعليمية الدولية لتوفير الدعم اللوجستي في بعض المراكز الخارجية، كما تم إعتماد أنظمة إلكترونية بديلة لتأمين أوراق الإمتحانات وضمان وصولها في الوقت المحدد.
وأشار إلى أنّ الوزارة إتخذت إجراءاتٍ إستثنائية للحفاظ على سرية الإمتحانات، من بينها نقل الأوراق تحت حراسةٍ مشددة عبر طائراتٍ من مطاري بورتسودان ودنقلا إلى عددٍ من العواصم الإقليمية التي تستضيف طلاب السودان.
التعليم في زمن الحرب
في جانبٍ آخر من المؤتمر، تناول الوزير التهامي واقع التعليم في ظل الحرب، قائلاً إنّ «الوزارة وجدت نفسها أمام معركةٍ لا تقلّ خطورة عن المعركة في الميدان، معركة ضد الجهل والإنقطاع وضياع جيلٍ بأكمله».
وأوضح أنّ أكثر من 60% من المدارس في العاصمة الخرطوم والولايات المتأثرة بالنزاع خرجت عن الخدمة، وأنّ الوزارة تسعى حالياً لإعادة تشغيل المدارس في المناطق الآمنة، وإطلاق منصةٍ إلكترونيةٍ للتعليم عن بُعد بالتعاون مع شركاء دوليين.
كما دعا الوزير الجهات الداعمة والمنظمات الدولية إلى مضاعفة الجهود لمساندة العملية التعليمية، خاصة في الولايات المتأثرة بالحرب، مؤكداً أنّ «إعادة بناء التعليم هي الخطوة الأولى نحو إعادة بناء الوطن».
رسالة أمل
إختتم الدكتور التهامي المؤتمر بتوجيه التهنئة للطلاب الناجحين وأسرهم، مؤكدًا أنّ «هذا الجيل، رغم الألم، إستطاع أن ينتصر للأمل».
وأضاف أنّ الوزارة ستقيم احتفالاً تكريماً للأوائل خلال الأسابيع المقبلة في مدينة بورتسودان، بحضور ممثلين من الحكومة والمنظمات التعليمية.
وأشار إلى أنّ نتيجة الشهادة الثانوية المؤجلة لعام 2024 ليست مجرد أرقام، بل هي شهادةُ صمودٍ لشعبٍ لا يزال متمسكاً بحلمه في وطنٍ أفضل، رغم الحرب والشتات.
فالنجاح في هذه الظروف، كما قال الوزير، «أقرب إلى معجزةٍ تربوية، كتبها الطلاب بدموعهم، وصنعتها أسرهم بإصرارها، ووقّعتها الوزارة بإرادتها في أن يظل التعليم هو الخيط الذي يربط السودان بمستقبله».