مقاربة تحليلية بين رؤية تحالف صمود وبيان دول الرباعية
نحو فهم متكامل لمسارات إنهاء الحرب في السودان
د. عصام عباس
مدخل
تشهد الساحة السودانية تلاقي وتكامل رؤيتين في مسار البحث عن السلام وإنهاء الحرب: رؤية “صمود” التي تمثل صوت القوى المدنية الديمقراطية الحقيقية الساعية لإعادة بناء الدولة السودانية على أسس الثورة، ورؤية “الرباعية” التي تجسد موقفاً إقليمياً ودولياً لوقف القتال واستعادة الاستقرار. ورغم اختلاف السياقات والمنطلقات، إلا أن كليهما يجتمعان في الإقرار بأن الحل العسكري مستحيل، وأن الطريق الوحيد لإنقاذ السودان يمر عبر عملية سياسية شاملة تقود إلى حكم مدني يعيد بناء الدولة على أسس السلام والعدالة. هذه المقاربة تحاول قراءة أوجه التلاقي والاختلاف بين الرؤيتين، لإبراز كيف يمكن أن يشكّلا معاً إطاراً تكاملياً يجمع بين الملكية الوطنية للحل والإسناد الدولي لتحقيقه.
منطلقات متقاطعة… وغايات متكاملة
تنبع رؤية صمود من الداخل السوداني، كنتاج لوعي ثوري مدني يرى في الحرب الحالية محاولة لتصفية ثورة ديسمبر و وأد حلم الدولة المدنية الديمقراطية، وتقوم على رفض عودة الإسلام السياسي، وعلى إعادة بناء الدولة من جذورها وفق مبادئ المواطنة، والعدالة، واللامركزية الفيدرالية.
أما رؤية الرباعية، فهي جهد خارجي يقف على قاعدة المصالح الإقليمية والاستقرار الأمني. يعترف بيان الرباعية بعمق الأزمة الإنسانية، لكنه يتعامل مع الحرب كخطر على الأمن الإقليمي إلى جانب كونها مأساة داخلية. هدفه العاجل ليس التغيير البنيوي بل إيقاف النزيف وحماية الحدود ومنع تمدد الفوضى.
بهذا المعنى، يمكن القول إن صمود تتحدث عن إعادة البناء الكامل لدولة تم تدميرها، بينما الرباعية تسعى لتحقيق تهدئة منظمة ومتدرجة من خلال ما هو موجود من مؤسسات الدولة السودانية.
تشخيص الأزمة وتعريف الصراع
تقرأ صمود الحرب كنتاج لتاريخ طويل من التمييز وعسكرة الدولة وتوظيف الدين في السياسة، وتضع المسؤولية صراحة على النظام الإسلاموي الذي قسم الجيش، وأشعل النزاعات، وقاد البلاد إلى الانهيار. بينما يكتفي بيان الرباعية بوصف الحرب كـ”صراع دموي بين طرفين متنازعين على السلطة” دون الغوص في جذورها. نهج الرباعية يقوم على التشخيص الدبلوماسي الحذر، ويخلو من التوصيف السياسي المباشر، لأنه لا يريد المساس بتوازنات الأطراف الإقليمية أو تحميل جهة بعينها مسؤولية الكارثة.
الهدف السياسي: بين حل الأزمة وإدارتها
ترى صمود أن الحل لا يكتمل إلا بإنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة قائمة على المدنية، والديمقراطية، والفيدرالية، وعدم إقحام الدين في إدارة الدولة، والمواطنة المتساوية، مع تفكيك بنية التمكين الإسلاموي من المشهد السياسي نهائيًا، وبالتالي العمل على حل الأزمة لا إدارتها. من ناحية أخرى، تحدد الرباعية هدفها في “إطلاق عملية انتقالية شاملة وشفافة خلال تسعة أشهر”، تقود إلى حكومة مدنية مستقلة تحافظ على “مؤسسات الدولة”. التركيز هنا على الانتقال السريع لا على التغيير البنيوي، على “الاستمرارية المؤسسية” لا على “إعادة البناء”، وبالتالي تسعى لإدارة الأزمة لا حلها.
آليات الحل: بين الملكية الوطنية والرعاية الدولية
ترى صمود أن الحل يجب أن يقوده السودانيون عبر حوار وطني شامل يجمع القوى المدنية، والنقابية، والمجتمعية الحقيقية، ويستبعد الواجهات المصنوعة التي تمثل مصالح النظام القديم. وتدعو صمود إلى عملية سلام بثلاثة مسارات متكاملة: إنسانية، أمنية، وسياسية، ضمن عملية شاملة تؤدي إلى وقف دائم لإطلاق النار وتكوين سلطة مدنية انتقالية لخمس سنوات قابلة للتمديد.
أما الرباعية، فإنها تقترح هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر، يعقبها وقف دائم لإطلاق النار، ثم مرحلة انتقالية قصيرة لا تتجاوز تسعة أشهر. العملية السياسية هنا ليست سودانية بالكامل، بل تدار عبر مساري جدة والقاهرة تحت إشراف مباشر من القوى الإقليمية والدولية. ورغم أن البيان يتحدث عن “عملية شاملة يقودها المدنيون”، إلا أن واقع الحال يضع القيادة الفعلية في يد الوسطاء، لا أصحاب المصلحة المحليين.
السلام بين العدالة والاستقرار
تعتبر صمود أن العدالة وعدم الإفلات من العقاب ركن جوهري في أي تسوية، داعية إلى توسيع ولاية المحكمة الجنائية الدولية لتشمل جرائم الحرب في كل السودان، وإلى جبر الضرر للضحايا. أما الرباعية فلم تتطرق إلى العدالة على الإطلاق، مكتفية بالدعوة إلى حماية المدنيين، في مؤشر على رغبتها في تجنب الملفات الشائكة التي قد تُعطل مسار التفاوض.
ترى صمود هنا أن العدالة هي أحد ممسكات السلام، في حين أن الرباعية، و لإعتبارات تتعلق بدبلوماسية التفاوض، تراها كـ”عبء على الاستقرار” في هذه المرحلة، لكنها لا تنكرها كإجراء قد يأتي لاحقًا.
الموقف من الإسلام السياسي
تلتقي الرؤيتان في رفض عودة جماعة الإخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسي، لكن منطلقاتهما مختلفة:
صمود ترى في الإسلام السياسي مشروعاً إستبدادياً يجب تفكيكه لحماية مدنية الدولة.
الرباعية ترفض الإسلاميين من زاوية أمنية، كونهم مصدر تهديد إقليمي واستقرار دولي.
النتيجة واحدة، لكن دوافعها مختلفة: الأولى ثورية – وطنية، والثانية براغماتية – أمنية.
وحدة السودان بين العدالة والسيطرة
رغم أن كلًّا من رؤية صمود وبيان الرباعية يعلنان التزامهما الصريح بمبدأ وحدة السودان وسلامة أراضيه، إلا أن هذا الإتفاق في الشكل يخفي وراءه اختلافاً جوهرياً في مضمون الفهم ومرجعية المعنى.
ففي تصور “صمود”، تُبنى الوحدة الوطنية على أساس المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية والفيدرالية التنموية، أي أنها ليست وحدة مفروضة من أعلى، بل ناتجة عن تسوية تاريخية جديدة تعيد تعريف العلاقة بين المركز والأقاليم، وبين الدولة والمجتمع. فالوحدة في هذا المنظور هي ثمرة عقد اجتماعي يقوم على الاعتراف بالتنوع وإزالة أسباب التهميش، بحيث تصبح الدولة حاضنة للتعدد لا نافية له. إنها وحدة تُكتسب بالإنصاف لا بالإكراه، وتستند إلى العدالة لا إلى السيطرة.
أما في رؤية الرباعية، فإن مفهوم الوحدة يُقرأ من زاوية السيادة الإقليمية والأمن الوطني، حيث تمثل وحدة السودان ركيزة للاستقرار الإقليمي ومنع تفكك الدولة بما قد يهدد أمن المنطقة بأسرها. فالوحدة هنا تُفهم بوصفها شرطاً جيوسياسياً أكثر من كونها مشروعاً اجتماعياً أو سياسياً، وتُقاس بقدرة الدولة على فرض النظام وضبط حدودها لا بمدى عدالة نظامها الداخلي.
وبينما تنظر صمود إلى وحدة السودان كتحقيق لعدالة المواطنة وتوازن السلطة والثروة، تنظر الرباعية إليها كضامن يحول دون الفوضى العابرة للحدود.
مفارقة الزمن: مشروع السنوات الخمس أم الشهور التسع؟
من أكثر الفوارق دلالة هو البعد الزمني المقترح:
صمود تقترح فترة تأسيسية انتقالية من خمس سنوات تليها أخرى مماثلة لاستكمال البناء المؤسسي.
الرباعية تطرح انتقالاً سريعاً خلال تسعة أشهر نحو حكومة مدنية.
هذه المفارقة نابعة من إختلاف الرؤية بين من يرى الدولة مشروعاً طويل الأمد لإعادة البناء، ومن يراها ملفاً سياسياً يجب إغلاقه بسرعة لإعادة الإستقرار.
قراءة في المآلات المحتملة
تقدم صمود مشروعًا ثوريًا طموحًا يعيد تعريف الدولة السودانية على أسس جديدة، لكنه يواجه تحديات تتعلق بالقدرة على التنفيذ في ظل غياب توازن القوة واحتدام الصراع. أما الرباعية فتقدم خارطة طريق واقعية من منظور القوى الدولية، لكنها تظل تقنية، فوقية، وعرضة للتآكل إذا لم تستند إلى قاعدة شعبية سودانية حقيقية. الإحتمال الواقعي أن تلتقي الرؤيتان في نقطة وسط: عملية تهدئة بضغط دولي، تُفتح عبرها نافذة محدودة أمام القوى المدنية لصياغة مسار سياسي أوسع، إن امتلكت زمام المبادرة وقدرة التنسيق.
خلاصة تحليلية
على الرغم من إختلاف المنطلقات بين رؤية “صمود” بوصفها تعبيرًا عن الإرادة الوطنية لقوى الثورة الساعية لإعادة بناء الدولة السودانية، وموقف الرباعية بوصفه تعبيرًا عن الإرادة الإقليمية والدولية لإيقاف الحرب واستعادة الاستقرار، فإن كليهما يلتقيان عند جوهر مشترك: رفض الحرب، واستحالة الحسم العسكري، والدعوة إلى حل سياسي يقود إلى حكم مدني، ووضع حد لمعاناة الشعب السوداني.
إن “صمود” تعبر عن الضمير الوطني من داخل البلاد، فيما تمثل الرباعية المظلة السياسية والدبلوماسية الضرورية لتأمين الدعم الإقليمي والدولي لأي عملية سلام ذات مصداقية. كلا المسارين يمكن أن يشكّلا جناحين لعملية واحدة، شرط أن تقوم على الملكية السودانية وتستفيد من الضمانات الدولية.
فبينما تقدم صمود المحتوى السياسي الوطني للحل، تهيّئ الرباعية البيئة الإقليمية والدولية الداعمة لتنفيذه. ومن هنا، يمكن النظر إلى الرؤيتين لا كبدائل متعارضة، بل كمسارين متكاملين إذا ما تم التنسيق بينهما بوضوح. إن التقاء الإرادتين – إرادة الداخل المدني الديمقراطي، وإرادة الخارج الداعمة للاستقرار – يشكل فرصة تاريخية لإنهاء دوامة الحرب وبناء سلام مستدام يؤسس لدولة المواطنة والعدالة والديمقراطية.