حرب السودان وإنذار المستقبل
بقلم : محمد عمر شمينا
لم يكن أبريل 2023 شهراً عادياً في تاريخ السودان، ففيه انهارت أوهام الانتقال السلمي إلى واقع حرب شرسة مزّقت البلاد. هذا الصراع، الذي اندلع بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، لم يقتصر أثره على الخرطوم وحدها، بل امتد ليشمل معظم أقاليم السودان، مخلفاً دماراً واسعاً ونزوحاً جماعياً ومأساة إنسانية متصاعدة. لكن أهميته لا تكمن في نتائجه المحلية فحسب، وإنما في ما يكشفه عن طبيعة الحروب المقبلة. الباحث آلان بوسويل كتب في مقال نشره بمجلة فورين أفيرز بتاريخ 2 أكتوبر 2025 أن ما يحدث في السودان ليس مجرد أزمة وطنية، بل هو صورة مبكرة لصراعات القرن الحادي والعشرين، حيث تتقاطع التكنولوجيا مع الانقسامات الداخلية، وتتشابك القوى المحلية مع الإقليمية والدولية.
الحرب في السودان أبرزت مأزق الدولة حين تتنازعها مراكز قوى متوازية. فالمحاولة الفاشلة لدمج مليشيا الدعم السريع في الجيش لم تكن مجرد خلاف إداري أو سياسي، بل عبّرت عن صراع أعمق حول من يحتكر القوة ومن يملك الشرعية. وبإنفجار المواجهة، ظهر أن الدولة السودانية ليست كياناً متماسكاً، بل ساحة تتقاسمها جيوش صغيرة ومليشيات محلية تستند إلى الولاءات القبلية والجهوية، وتتصرف كقوى أمر واقع. وهذه الظاهرة ليست قاصرة على السودان، بل تكررت في دول أخرى، حيث تنهار الدولة المركزية وتبرز بدائل عسكرية أو شبه عسكرية لملء الفراغ.
ومن السمات اللافتة لهذا الصراع دخول التكنولوجيا الرخيصة إلى قلب المعركة. فالطائرات المسيّرة، التي لم تعد حكراً على الجيوش الكبرى، منحت مليشيا الدعم السريع أداة فعالة لتعديل ميزان القوة مع الجيش النظامي. هذا التحول يعكس كيف يمكن لوسائل بسيطة نسبياً أن تعيد صياغة المعركة وتطيل أمدها. وهنا يصبح من الصعب التفكير في الحروب المقبلة بالمعايير التقليدية، إذ لم تعد موازين القوة تُقاس بحجم الدبابات والطائرات، بل بقدرة الأطراف على توظيف أدوات تكنولوجية أقل كلفة وأكثر فاعلية.
لكن الأثمان الباهظة لم تقتصر على الجانب العسكري. المدنيون كانوا في قلب المأساة، بين نزوح جماعي ومعاناة من الجوع والمرض والانتهاكات المستمرة. انهارت المستشفيات، وتحوّلت المدارس إلى ملاجئ، وغابت أبسط مقومات الحياة الآمنة. هذه الصورة تلخص جانبًا آخر من الحروب الجديدة، حيث يصبح المجتمع نفسه جزءًا من المعركة، والضحايا أداة ضغط في حسابات عسكرية وسياسية.
وقد كشفت صحيفة ذا جارديان البريطانية، في تقرير للصحفي جيسون بيرك بتاريخ 8 أكتوبر 2025، أن الحرب في السودان اتخذت منحى أكثر قسوة مع دخول مرتزقة أجانب إلى الساحة، بينهم عناصر من كولومبيا يعملون إلى جانب مليشيا الدعم السريع. وأورد التقرير أن هؤلاء المرتزقة يقومون بتدريب الأطفال على استخدام الأسلحة الثقيلة، بما فيها الرشاشات وقاذفات الآر بي جي، قبل إرسالهم إلى الخطوط الأمامية في مهام أشبه بالإنتحارية. هذا التطور يعكس حجم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ويؤكد أن الحرب السودانية لم تعد صراعاً بين قوات مسلحة فقط، بل تحولت إلى “صناعة حرب” تُستغل فيها الفئات الأكثر ضعفاً، وفي مقدمتها الأطفال.
وإذا كانت هذه الحرب قد بدت في ظاهرها صراعاً داخلياً على السلطة، فإنها في جوهرها متشابكة مع توازنات إقليمية ودولية أعقد. قوى خارجية وجدت فيها فرصة لتوسيع نفوذها أو حماية مصالحها، فدخلت على خط النزاع بدعم سياسي أو لوجستي أو عسكري. وبهذا المعنى، لم يعد السودان يحارب وحده، بل تحوّل إلى ساحة صراع بالوكالة، ما يجعل أي تسوية داخلية قاصرة ما لم تُؤخذ في الاعتبار شبكة المصالح المتشابكة المحيطة به.
تتضاعف خطورة المشهد إذا ما نظرنا إلى الأهمية الاستراتيجية للسودان. فهذا البلد يمثل محوراً جغرافياً بالغ الحساسية، فهو متصل مباشرة بأمن البحر الأحمر، ويقع في قلب معادلة مياه النيل التي تشكّل شريان حياة لدول عديدة في القارة. ومن هنا، فإن استقرار السودان لا يخص شعبه وحده، بل يرتبط بمصالح حيوية لدول الجوار وللقوى الدولية الكبرى. إنهياره لا يهدد وحدة أراضيه فقط، بل يفتح الباب أمام سباق نفوذ في منطقة هي اصلاً مسرحاً لتقاطع مصالح متعارضة بين قوى إقليمية ودولية.
هذا الواقع هو ما دفع آلان بوسويل إلى القول إن حرب السودان تحمل دروساً أبعد من حدودها. فالحروب المقبلة لن تكون قصيرة أو محدودة، بل طويلة ومعقدة ومتشعبة. أطرافها لم تعد جيوشاً نظامية فقط، بل مليشيات وقوى محلية مدعومة بتكنولوجيا حديثة وموارد عابرة للحدود. والمدنيون، كما أظهرت التجربة السودانية، سيكونون دائماً أول من يدفع الثمن. كما أن أدوات الوساطة التقليدية، التي بُنيت على فرضيات صراعات القرن الماضي، تبدو عاجزة أمام هذا النوع الجديد من النزاعات.
وأتفق مع رؤية بوسويل إلى حد بعيد، إذ إن الحرب السودانية بالفعل تعكس ملامح الحروب القادمة في المنطقة والعالم. ما نشهده اليوم ليس صراعاً استثنائياً، بل صورة متقدمة لانهيار نماذج الدولة التقليدية أمام ضغوط المليشيات والاقتصاد غير الرسمي والتدخلات الخارجية. وإذا لم يُنظر إلى هذا المشهد باعتباره جرس إنذار مبكراً، فسنرى نسخاً مشابهة تتكرر في بلدان أخرى بنفس السيناريو من التفتت والانهيار الطويل.
وانطلاقاً من ذلك، تبدو الحاجة ماسّة إلى جملة من الرؤى والمداخل التي يمكن أن تُعين على فهم أعمق للمشهد وتحديد مساراته الممكنة. أولها أن يتعامل المجتمع الدولي مع الأزمة السودانية باعتبارها جزءًا من أمن إقليمي ودولي، لا مجرد مأساة محلية، ما يستدعي استراتيجيات تدخل أكثر شمولاً وجرأة. وثانيها ضرورة الاستثمار في بناء مؤسسات مدنية قوية قادرة على استعادة الثقة العامة، بدلاً من الإكتفاء بترتيبات عسكرية هشة سرعان ما تنهار. وثالثها أن أدوات الوساطة ينبغي أن تتجدد، عبر إدماج قوى المجتمع المدني والفاعلين المحليين لا الاقتصار على النخب السياسية أو العسكرية. ورابعها أن التجربة أثبتت أن وحدة الجبهة المدنية الداخلية هي الشرط الأول لانتزاع أي تحول حقيقي، وهو ما برهنت عليه ثورة ديسمبر 2018 عندما التقت مختلف القوى السياسية والمهنية والشعبية على هدف واحد وأسقطت نظاماً عسكرياً ظل جاثماً لعقود. إن استلهام هذا الدرس في اللحظة الراهنة قد يكون مفتاحاً لإعادة بناء معادلة القوة وإجبار الأطراف المتحاربة على الانصياع لحل سياسي. وأخيراً، لا بد من التركيز على العدالة والإنصاف باعتبارهما مدخلاً لأي سلام مستدام، فالإفلات من العقاب هو الذي يغذي دوامة العنف في السودان كما في غيره.
وهكذا يغدو السودان اليوم ليس مجرد بلد منكوب يعيش حرباً داخلية، بل مختبراً لطبيعة الحروب المقبلة. وما لم يدرك المجتمع الدولي أن ما يحدث هو إنذار مبكر لما قد يتكرر في أماكن أخرى، فإن المستقبل قد يحمل نزاعات مشابهة أكثر دماراً وإستعصاءً على الحل. إن قراءة مأساة السودان كقضية محلية معزولة هو خطأ استراتيجي، بينما النظر إليها كنموذج متقدم لما هو آت قد يكون السبيل لفهم طبيعة التحديات الأمنية والسياسية في القرن الحادي والعشرين