كيف حوَّل الإفلات من العقاب الجنجويد من ميليشيا إلى قوة سياسية
بقلم : أريج الحاج
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية هذا الشهر حكماً تاريخياً بإدانة علي كوشيب بإرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور قبل عقدين من الزمان.
لكن هذا الحكم لا يمثل مجرد عدالة متأخرة ضد أحد قادة الميليشيات، بل يكشف جرحاً أعمق: كيف تحولت الميليشيات التي كانت خارجة عن القانون عام 2003 إلى قوة عسكرية شرعية، ثم إلى كيان سياسي يعلن حكومة موازية تضم وزراء وممثلاً لدى الأمم المتحدة؟
تبدأ القصة من دارفور المحروقة وتنتهي بحربٍ أهلية تمزّق السودان، والخيط الذي يربط بين المشهدين هو الإفلات من العقاب.
ينتمي علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف بـ”علي كوشيب”، إلى قبيلة التعايشة من البقارة في دارفور.
في مطلع الألفية، لم يكن كوشيب مجرد زعيمٍ قبلي، بل كان القائد الميداني الرئيسي لميليشيا الجنجويد في منطقة وادي صالح بغرب دارفور، بينما شغل في الوقت ذاته مواقع قيادية في قوات الدفاع الشعبي والاحتياطي المركزي.
قاد كوشيب ميليشيا تضم أكثر من عشرة آلاف مقاتل، شاركوا في عمليات واسعة ضد قبائل الفور والمساليت ومجتمعات غير عربية أخرى.
كان كوشيب يعمل ضمن منظومة أوسع، يتلقى أوامره من أحمد هارون، المسؤول الحكومي الذي كان يشرف على العمليات العسكرية في دارفور.
لكن العلاقات بين قادة الجنجويد كانت أكثر تعقيداً على الأرض.
فقد كان موسى هلال، زعيم عشيرة المحاميد من الرزيقات، الوجه الأبرز للميليشيا.
وأُفرج عنه من سجن بورتسودان في أبريل 2003 بأمر من نائب الرئيس حينها علي عثمان طه، رغم إدانته بقتل 17 شخصًا وسرقة البنك المركزي في نيالا.
ووصفت “هيومن رايتس ووتش” هلال بأنه “العمود الفقري لاستراتيجية الحكومة في تجنيد الميليشيات”.
في حين كان هلال يتمتع بنفوذٍ قبلي واسع، كان كوشيب هو القائد الميداني المنفذ للعمليات على الأرض.
وفي الظل، كان شابٌ يُدعى محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تاجر جمال من الرزيقات، يعمل إلى جانب هلال خلال حرب دارفور (2003–2005)، متعلماً قواعد اللعبة وبانياً شبكته الخاصة.
ومع مرور الوقت، صار الثلاثة يمثلون مثلث الجنجويد: الزعامة، التنفيذ، والطموح.
أدانت المحكمة كوشيب في 27 تهمة، تشمل مئات جرائم القتل، وإغتصاب عشرات النساء، والتهجير القسري، والتعذيب، والإعدام الجماعي.
وقد وقعت هذه الجرائم بين عامي 2003 و2004، لكن الحكم لم يصدر حتى عام 2025 — أي بعد أكثر من عقدين.
وهذا التأخير ليس تفصيلاً إجرائياً، بل هو جوهر المأساة السودانية.
أصدرت المحكمة الجنائية مذكرة توقيف بحق كوشيب عام 2007، لكنه ظل حراً طيلة 13 عاماً.
لم يكن مختبئاً، بل كان يعمل قائداً لقوات الإحتياطي المركزي في رهيد البردي جنوب دارفور.
وفي عام 2020، بعد سقوط نظام عمر البشير، فرّ كوشيب إلى جمهورية إفريقيا الوسطى وسلّم نفسه طوعاً للمحكمة، مبرراً خطوته بمخاوف أمنية.
هذه الخطوة أثارت تساؤلات: هل خشي الانتقام؟ أم حصل على ضمانات؟
ورجّح بعض المحللين أنه ربما وافق على أن يكون شاهداً ضد قادة آخرين ما زالوا في السلطة.
وبينما كان كوشيب يُحاكم في لاهاي، سلك موسى هلال طريقاً مختلفاً؛ فبدلاً من المساءلة، نال ترقية.
ففي يناير 2008 عيّنه النظام مستشاراً خاصاً لوزير الداخلية.
لكن في 2017، اعتقلته قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي – وهو من أبناء قبيلته – بعد أن رفض تسليم سلاحه.
ثم أُفرج عنه بعفوٍ رئاسي في 2021.
وفي الحرب الأهلية التي إندلعت عام 2023، أعلن هلال دعم الجيش ضد الدعم السريع، بينما أعلن شيوخ قبيلته موقفاً مغايراً مؤيداً لحميدتي.
أما حميدتي نفسه، فسار في طريقٍ آخر تماماً
فلم يُحاكم، ولم يُعتقل، بل تحوّل من تاجر جمالٍ إلى قائدٍ لقوات الدعم السريع عام 2010، ثم إلى شريكٍ أوروبي في مكافحة الهجرة غير الشرعية، وأخيراً إلى نائب رئيس مجلس السيادة بعد ثورة 2019.
المسار واضح: كلما زاد الإفلات من العقاب، زاد النفوذ السياسي.
ومع تصاعد الحرب الأهلية، نسج حميدتي تحالفات سياسية معقدة، أهمها مع عبد العزيز الحلو، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، الذي كان قد رفض سابقاً التعامل معه.
لكن هذا العام تغيّرت المعادلة؛ ففي نيروبي أعلن الحلو تحالفه مع حميدتي وأدى اليمين نائباً له في المجلس الرئاسي للحكومة الموازية.
شكلوا حكومة موازية، أدى فيها حميدتي اليمين رئيسًا للمجلس الرئاسي في نيالا، بينما عُيّن محمد حسن التعايشي رئيساً للوزراء، وأُعلنت قائمة وزراءٍ ووُلاة لإضفاء طابعٍ مؤسسي على سلطتها.
لكن هذه الحكومة الموازية لم تحظَ بأي إعتراف دولي.
فقد أدانت الجامعة العربية الخطوة ووصفتها بأنها “غير شرعية”، وأكدت بعثة الأمم المتحدة أن المنظمة تعترف فقط بالحكومة القائمة في بورتسودان.
غير أن الإعلان ذاته مثّل تطوراً نوعياً:
فقد تحولت الجنجويد من ميليشيا مسلحة في 2003، إلى قوة شبه نظامية في 2010، إلى شريك في الحكم عام 2019، ثم إلى كيانٍ سياسي يعلن حكومةً في 2025.
وعلى إمتداد هذا المسار، من دارفور قبل 2003 إلى الحرب الحالية التي إندلعت في 2023، إستمر نمط العنف والنزوح القسري، وإن تغيّرت الأسماء والعناوين.
الميليشيات التي كان يمكن للدولة إنكارها تحوّلت إلى قواتٍ نظامية، ثم إلى كيانات سياسية تطمح إلى الشرعية الدولية.
القصة ليست عن كوشيب وحده، بل عن منظومةٍ كاملة سمح لها الإفلات من العقاب أن تنمو وتتحوّل حتى بلغت ما هي عليه اليوم.
لقد جاء هذا التأخير في العدالة بثمنٍ باهظ:
فلو حوكم كوشيب عام 2007، ولو سُلّم هلال للعدالة بدل تعيينه مستشاراً، ولو واجه حميدتي المساءلة عن دوره في دارفور قبل أن يصبح قائداً لقوة شبه نظامية، لربما كان السودان في مكانٍ مختلفٍ اليوم.
لكن الإفلات من العقاب سمح للنموذج أن يتطور — من ميليشيا، إلى جيش، إلى سلطة سياسية.
أريج الحاج – صحافية وباحثة تقيم في واشنطن.