شركاء الجريمة

في الفاشر، لم يكن الموتُ الذي حدث بالأمس وقبله طارئًا، ولا عابرًا كريحٍ محمّلة بالرماد.

كان منظمًا، متعمدًا، مقصودًا حتى آخر طلقة، كانت قوات الدعم السريع تجوب المدينة وتقتل بدمٍ بارد، كأنها تنتقم من الوجود ذاته. لم تكن المعركة بين جيشين، بل بين الموت والحياة، بين وحشية السلاح وصرخات المدنيين الذين قُتلوا لأنهم فقط بقوا هناك.

كان القتل ممنهجًا إلى حد الفضيحة، مفضوحًا تحت ضوء الشمس وعدسات الهواتف.

لم يستثنِ الموت أحدًا، كل رجل يتحرك في المدينة كان هدفًا، لم يكن في الأمر التباس: الدعم السريع ارتكب جريمة حربٍ مكتملة الأركان، أراد للعالم أن يراها، كمن يفاخر بخطيئته.

لكن الجريمة لم تتوقف عند من ضغط على الزناد، وإنما بدأت حين صفق آخرون لكل قطرة دم سابقة سالت على أسوار المدينة المحاصرة، وإن الجريمة كانت ترتكب يوميًا على شاشة كل هاتفٍ صفق لمنظر الجثث، في وقت سابق وفي كل منشورٍ فرح بانكسار هذا أو اندحار ذاك. القاتل في الميدان حمل البندقية، أما المشجعون على القتل فقد حملوا الكراهية، وبثّوها كسمٍّ في عقول الناس. كلاهما قتل، وإن اختلفت الأدوات.

جريمة الفاشر بدأت حين امتلأت الشاشات بتصفيق وتشفٍ من مصير هذا القائد او ذاك المتمرد، وكأنّ الدم الذي سال فيها “مستحقّ”، وكأنّ الخراب الذي عمّها “جزاء عادل”. هؤلاء ليسوا متفرجين، بل مشجعون، صناع بالكلمة لما صنعه القتلة بالسلاح.

الذين فرحوا وهم يشاهدون الدخان يتصاعد من بيوت الفاشر، الذين كتبوا منشورات النصر والشماتة، ورفعوا شعارات “الحسم” و”النهاية”، هم شركاء حقيقيون في الجريمة، ولو لم يحملوا بندقية. القاتل أطلق النار على الأجساد، وهؤلاء أطلقوا النار على الضمائر. كلاهما قتل، وإن اختلفت الوسيلة.

الفاشر لم تكن معركةً عسكرية، بل اختبارًا أخلاقيًا سقط فيه الجميع.

سقط القتلة الذين مارسوا الرعب، وسقط المشجعون الذين حوّلوا الدم إلى راية، وسقط الصامتون الذين اختاروا اللامبالاة طريقًا للهروب من الحقيقة.

كلهم خذلوا الوطن: الأول بالرصاص، والثاني بالتبرير، والثالث بالصمت، والرابع بخطاب كراهية الآخر.

حين كانت الأصوات العاقلة تحذر من الكارثة، وتدعو إلى وقف الحرب قبل أن تبتلع المدن، كانوا يسخرون منها، ويصفونها بالضعف والخيانة. وحين نادت القوى المدنية بالسلام، اتُهمت بـ “العمالة”. اليوم، بعد أن تحولت الفاشر إلى رماد، يتباكون، وكأن إظهار حزنهم يمكن أن يردّ الأرواح.

لكن أي ندم هذا؟ وأي توبة تُقبل بعد أن صار الدم ماءً في أعين الناس؟

من يبرر القتل، ومن يفرح به، ومن يسكت عنه، جميعهم يقفون في صف واحد أمام التاريخ مع القتلة.

الفاشر اليوم ليست مجرد مدينة منكوبة؛ إنها فضيحة وطنية كبرى، مرآة تُظهر قبحنا الجمعي حين استبدلنا الرحمة بالانتقام، والضمير بالولاء. لن تكون الفاشر نصرًا لأحد، ولن يحق لأحد أن يرفع رأسه فوق ركامها متباهيًا بما يسميه “بطولة”.

فما جرى فيها ليس بطولة، بل خزيٌ مطلق، لا تبرره أي راية، ولا تغسله أي ذريعة.

كفى لهذه البلاد أن تُقاد من عطشى الدم، وكفى لمن يرفعون شعارات الموت أن يحتكروا الوطنية.

الفاشر لم تسقط وحدها – سقطنا جميعًا يوم صمتنا، ويوم صفّق بعضنا، ويوم برر آخرون القتل وكأنه خيار مشروع.

القاتل والمشجع على القتل، كلاهما مجرم.

كلاهما شريك في الذبح، في الانحدار، في سقوط المعنى الإنساني.

ومن لم يدرك بعد، فليعلم أن ما جرى في الفاشر ليس نهاية الحرب، بل بدايتها الحقيقية – حرب الضمير ضد العار، حرب الحقيقة ضد الزيف، حرب الحياة ضد الموت الذي صار له أنصارٌ يهتفون باسمه.

فمن تبقّى ليبكي الفاشر حقًا؟

ومن يجرؤ بعد اليوم على تبرير الدم، وهو يعلم أن الفاشر لم تُقتل وحدها، بل قُتلت معها روح السودان بأسره.

Exit mobile version