الانتقام.. عدالة مؤجّلة أم وصفة لتدمير الجماعات/المجتمعات؟

بقلم : نسرين علي

في الحروب لا يُهزم أحد تمامًا، ولا ينجو أحد تمامًا.

كل الأطراف تخرج مثقلة بما فقدته، لكن أخطر ما تحمله هو رغبة الانتقام – تلك النار التي تبدأ كشرارة في النفس، ثم ما تلبث أن تتحول إلى حريقٍ جماعي إذا لم تجد من يطفئها بالعدالة وصوت العقل.

  • جرحٌ يتسع في الذاكرة السودانية

في السودان اليوم، بعد ما يقارب الثلاثة أعوام من حربٍ ضروس أنهكت الناس وكشفت هشاشة الدولة، بدأت مظاهر الانتقام تتسلل إلى السلوك والخطاب والذاكرة.

خطابات الثأر والشماتة، التشفي والكراهية، نكات الحرب التي تسخر من الموت، ومحاولات تصوير الآخر كعدوٍّ أبديّ، كلها مؤشرات على أن الجرح لم يعد في الجسد فحسب، بل في الروح الجماعية.

  • من شعور مشروع إلى آلية تدمير

الانتقام في جوهره ردّ فعل إنساني مشروع على الأذى والظلم والخسارة.

حين يُقصف بيت أو يُغتال قريب، يصبح الغضب رغبة طبيعية في استعادة الكرامة.

لكن الخطورة تبدأ حين يفشل النظام السياسي والقضائي في أن يكون وسيطًا وحاميًا للعدالة.

عندها يتحول الشعور الفردي إلى مشروعٍ جماعي، وتُستبدل المحاكم بالسلاح، والحق بالقوة.

  • حين يصمت القانون… تتكلم البنادق

في مثل هذا المناخ، لا يعود الانتقام فعلًا شخصيًا، بل يتحول إلى منظومة مُمأسسة تغذيها خطابات الكراهية والمصالح السياسية.

حين يصمت القانون، تتكلم البنادق.

وحين يغيب الإنصاف، تُخترع روايات تقسم الناس إلى «ضحايا» و«خونة»، إلى «نحن» و«هم».

وهذا ما نراه اليوم في السودان، حيث تتحول المعاناة إلى مبررٍ للعنف، ويُستثمر الألم وقودًا لحروبٍ صغيرة داخل الحرب الكبرى.

 

  • الانتقام… اقتصاد سياسي وخطاب جماعي

الانتقام لا يعيش في الفراغ؛ يحتاج إلى رواية تغذّيه، وسلطة تبرّره، وبيئة تُطبع سلوكه.

وحين تتوافر هذه العناصر – إعلام متواطئ، خطاب قبلي متشنّج، سلاح متاح، وعي معطوب وفقر متفشٍّ – يصبح العنف مهنةً، والانتقام اقتصادًا سياسيًا.

كل فعلٍ يُبرّر بآخر، وكل مجزرةٍ تُروى كردٍّ على مجزرةٍ سابقة، حتى تفقد البلاد ذاكرتها الحقيقية، ويغدو الموت مجرّد «تبادل»، فعل أو حدث لا معنى له.

 

  • العدالة المؤجّلة تتحوّل إلى عدالةٍ زائفة

 

لا يمكن لمجتمعٍ أن ينهض على ذاكرة الانتقام.

 

التاريخ يعلّمنا أن العدالة المؤجلة تتحول سريعًا إلى عدالةٍ زائفة.

فالعدالة الحقيقية لا تقوم على المحو، بل على الاعتراف والمحاسبة والإنصاف.

ما يحتاجه السودان اليوم ليس مزيدًا من الشعارات عن التسامح، بل خطوات عملية تبدأ من الحقيقة لا من التجاهل:

تحقيقات شفافة

لجان مستقلة

محاكمات علنية

وأصوات شجاعة تقول بوضوح: «نعم، حدث هذا الظلم». كيف نوقفه؟ ونحميه من التكرار.  

من دون هذا الاعتراف، سيبقى الغضب معلّقًا بين الأرض والسماء، ينتظر فرصة لينفجر.

  • من الانتقام إلى البناء

الانتقام لا يُشفى بالتناسي، بل بالمواجهة المنظمة مع الحقيقة، وببناء مسارات عدالةٍ تُشعر الناس بأن القانون موجود، وأن الحياة تستحق أن تُعاش بسلام.

حينها فقط يمكن أن يتحوّل الألم من وقودٍ للعنف إلى طاقةٍ لإعادة البناء.

ولأن الحرب ليست حدثًا عابرًا بل حالة ذهنية واجتماعية، فإن مواجهة منطق الانتقام لا تكون بالسلاح ولا بالمواعظ، بل بتغيير البنية التي تنتجه:

إصلاح اقتصادي يقلّل من بيئة التجنيد.

تعليمٌ نقديّ يعيد الاعتبار للعقل بدل الكراهية.

إعلام مسؤول يداوي لا يؤجّج.

إن بناء السلام يبدأ من وعيٍ جمعيٍّ جديد يفهم أن «العدو» في النهاية هو الخراب نفسه، لا الجار المختلف.

 

 خاتمة

الانتقام يبدأ غالبًا كردّ فعل إنساني مشروع، لكنه يتحوّل إلى آلية تدميرية حين يجد بنية اجتماعية ووقودًا اقتصاديًا وسياسيًا.

الخروج من دوامة الانتقام ليس ترفًا أخلاقيًا، بل شرط لبقاء الدولة والمجتمع.

حين تتحول العدالة إلى انتقام، يتحول الوطن إلى ساحة تصفية، والذاكرة إلى سلاح.

أما حين تُستعاد العدالة كقيمة لا كأداة، تبدأ البلاد أولى خطوات الشفاء.

في النهاية، لا أحد يربح من الانتقام – حتى المنتصر فيه.

من يثأر يظن أنه يستعيد كرامته، لكنه في الحقيقة يسلّمها لدوامة لا تنتهي.

العدالة لا تحتاج إلى دماء جديدة لتثبت وجودها، بل إلى ضميرٍ عامٍّ حيّ يتفق على أن ما حدث يجب ألا يتكرر – لا لأي طرف، ولا بأي مبرر.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى