
بقلم : حيدر المكاشفي
الطبيعي والمنطقي في أي مفاوضات أن تقود إلى نتيجة وحلول لما يتفاوض حوله مهما تطاولت، إلا هذه المفاوضات التي لا تزال مستمرة بلا جدوى منذ الشهر الأول للحرب، إذ لا نتيجة لها سوى استهلاك الوقت والجهد، لتتحول بذلك إلى مفاوضات عبثية لا فائدة فيها ولا طائل منها، بل ربما صارت هدفًا في حد ذاتها لأحد الأطراف، يشتري بها الوقت عبر التسويف والمماطلة، بينما يمضي قدماً في ترتيباته التي أعدها مسبقًا لوضع الآخرين أمام الأمر الواقع كما يتوهم، وإزاء هذا الوضع الملتبس لم يبقَ من حل في تقديرنا سوى وقف مثل هذه المفاوضات غير المنتجة نهائيًا والتوجه إلى حلول أخرى أكثر إحكامًا وناجزية.. فلا أظن أن البلاد شهدت أزمة بتداعيات وإفرازات غاية في السوء ووصلت مرحلة أن تنذر بذهاب ريح البلاد مثل أزمة الحرب الماثلة، التي ما تزال تراوح مكانها بل تتعقد وتسوء يومًا بعد يوم، الأمر الذي يضعها في مقدمة باب غرائب المفاوضات في موسوعة غينس للأرقام القياسية.. ومن كثرة انعقاد وانفضاض مفاوضات حلحلة الأزمة وإنهاء الحرب، بدت وكأنها لعبة تتلذذ بها سلطة بورتسودان كحال طفل غرير يلهو بالباب الدوار (revolving door) يدور معه دخولاً وخروجًا دون أن يلج إلى داخل المبنى، وصارت حكاية بلا نهاية مثلها مثل (حجوة أم ضبيبينة)، وهي أحجية سودانية شهيرة لا نهاية لها، ولهذا درج السودانيون على نعت كل ما هو لولبي وزئبقي وحلزوني لا يعرفون له رأس من قعر، بأنه مثل (حجوة أم ضبيبينة)، وشخصياً لا أعرف حوارًا يدور بين متحاورين بلا طائل كالذي حدث في كل المفاوضات التي تمت بدءا بجدة مرورًا بالمنامة وجنيف وإلى واشنطون وما بينها من مفاوضات ولقاءات سرية، وما أشبه مثل هذا التفاوض بحوار الطرشان، الذي تقول عنه الطرفة أنه دار بين امرأتين من كبار السن، ضعف منهن البصر وثقل السمع، فدار بينهن الحوار التالي، حاجة زهرة لحاجة بتول: “كيف أصبحتي حاجة بتول”، حاجة بتول ترد على حاجة زهرة: “سجمي وآفليلي قلتي لي المات منو”.. حاجة زهرة تعقب: “إنتي ماشة السوق”، حاجة بتول تعلق: “لا أنا ماشة السوق”، حاجة زهرة تعتذر: “معليش كنت قايلاك ماشة السوق”.. مثل هذا الحوار الذي لا يلتقي فيه المتحاوران أبدًا وكأنهما قضيبا سكة حديد، وما يدور حتى اليوم لإنهاء الأزمة والحرب، لم يكن إلا مثل حوار هاتين السيدتين الطاعنتين في السن.
كما يقال إن المقدمات تقود إلى النتائج، كانت المقدمات التي سبقت مفاوضات واشنطون تؤشر إلى انهيارها قبل أن تبدأ، في الوقت الذي كانت تنفي فيه سلطة بورتسودان وجود أي مفاوضات بشأن الحرب، كانت واشنطن تستضيف وفدها، الذي ربما جاء وفقًا لبيان مجلس السيادة لا للتفاوض بل لتبادل التحايا الدبلوماسية والتقاط صور تذكارية أمام البيت الأبيض، فما يجري على ساحة سلطة بورتسودان هذه الأيام يمكن أن يدرّس في كليات الفنون تحت مسمى المنظر السيريالي في سياسة الحرب، حكومة تنفي، ووزيرها في الطائرة، وبيان الخارجية يتنفس بصعوبة ليلحق بالأخبار المتداولة في الفضاء الإلكتروني، ثم يظهر في آخر لحظة ليؤكد أن الزيارة كانت في إطار التشاور غير التفاوضي حول ما يمكن أن يكون ربما تمهيدًا للتفكير في إمكانية الحوار، ومع هذا التناقض المربك ضاعت الحقيقة، والحقيقة هنا مثل الظل في الظهيرة كلما اقتربت منها اختفت، واللافت أن الحكومة التي أمضت شهورًا تعبئ الناس ضد التفاوض، ووصفت الداعين إليه بالخونة والمتخاذلين، وجدت نفسها مضطرة لتعديل الخطاب الرسمي من لا تفاوض إلى نعم ولكن عبر الرباعية، ثم إلى نحن لا نتفاوض لكننا نناقش، وأخيرًا إلى الصيغة العبقرية لسنا طرفًا في المفاوضات التي نحن جزءا منها، والسبب أن هنالك ثلاثة أشباح تسيطر على القرار، إن الحكومة تتجنب الاعتراف الصريح بالمفاوضات لثلاثة أسباب لا تخلو من طرافة مأساوية، التعبئة السابقة ضد التفاوض، فقد صُوِّر في الإعلام الرسمي كخيانة وطنية ومؤامرة غربية، فكيف تعترف به اليوم دون أن تبتلع كل شعاراتها السابقة، رغبة بعض القادة في استمرار الحكم العسكري، لأن المفاوضات قد تعني العودة إلى الحياة المدنية، وهذا آخر ما يريدونه في الوقت الحالي. النفوذ المتصاعد للمؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، اللذين يعتبران وقف الحرب خطأً استراتيجيًا، وكأن استمرارها هو الركن السادس في عقيدتهم السياسية، وفي حين يواصل السودانيون النزوح والموت والجوع، تنشغل الحكومة بتوضيح أنها لم تقل إنها تفاوض، وإنما لم تقل أيضًا إنها لا تفاوض. باختصار، إنها حالة فريدة من الجهجهة والإرباك بين النفي والإثبات وفي النهاية، ربما يكون الحل في أن تعلن بورتسودان رسميًا نحن ضد التفاوض إلا إذا تم التفاوض حول نفي التفاوض، وبهذا الشكل يرضى الجميع: المتشددون لأن لا تفاوض، والدبلوماسيون لأن هناك شيئًا يشبه التفاوض، وواشنطن لأنها على الأقل نجحت في جمع السودانيين على مائدة التفاوض.. يبدو أن حكومة بورتسودان دخلت مرحلة جديدة من الإبداع التعبيري، حيث باتت قادرة على الجمع بين النقيضين في جملة واحدة النفي والإثبات، الحرب والسلام، الإنكار والإقرار، بل وحتى الوجود واللاوجود في آنٍ واحد، من يتابع خطابات سلطة بورتسودان يدرك أنها باتت تمارس ما يمكن تسميته فن التملص السياسي المتقدم. فكل تصريح يُفنَّد في اليوم التالي، وكل نفي يعقبه تأكيد جزئي أو توضيح ملتبس. وكأنها تتحدث بلغة خاصة لا يفهمها سواها.. وفي أوكازيون التناقضات المنخرطة فيه حكومة بورتسودان ثمة تناقض آخر، ففي مشهد لا يخلو من التهكم السياسي، أصدرت حكومة بورتسودان بياناً ضافياً احتفت فيه بالاتفاق الذي أوقف الحرب على غزة، وملأت الصفحات بالشعارات الأخلاقية عن حماية المدنيين والحفاظ على البنية التحتية ووقف نزيف الدم. كلام جميل لكنه جميل فقط عندما يحدث في غزة، أما الخرطوم ودارفور وكردفان والنيل الأزرق فـلكل مقام مقال. فأي منطق هذا الذي يبيح لحكومة ما أن تبكي على المدنيين في فلسطين، بينما تصم آذانها عن بكاء المدنيين في بلادها، وكيف لمن يثني على الحكمة السياسية في طي صفحة الحرب هناك، أن يرفض وقفها هنا بل ويصر على استمرارها رغم مبادرات الداخل والخارج، وكأن أرواح السودانيين أقل قيمة، أو كأن البنى التحتية في الخرطوم ونيالا والفاشر ليست جديرة بالحماية، هذه ليست مجرد مفارقة بل فضيحة سياسية وأخلاقية موثقة بالبيانات الرسمية. فالحكومة التي تحدثت ببلاغة عن وقف الدمار، هي نفسها التي ترعى الدمار يومياً برفضها وتعويقها أي مسار تفاوضي، بل وتتهم كل من يدعو إلى السلام بالخيانة أو الضعف أو التساوي بين الجلاد والضحية، وهو الخطاب ذاته الذي استخدمته الأطراف المتحاربة في كل صراع قبل أن تجلس لاحقاً على الطاولة مضطرة. والسؤال المشروع الذي يفرض نفسه هل تؤمن الحكومة بقدسية دم الإنسان لأنها إنسانية فعلاً، أم لأنها تبحث عن لقطات سياسية مجانية في قضايا تحظى بإجماع عالمي، وإذا كان وقف الحرب على غزة فضيلة، فلماذا يصبح وقف الحرب في السودان استسلاماً أو خضوعاً، أليس من العقل أن نحيي فضيلة السلام حيثما كانت، ونبدأ بها من أرضنا قبل غيرنا، فالسلام ليس نقيصة إلا في قاموس من يتعيشون على الحرب إن البيان الحكومي في جوهره يُظهر حقيقة لا يمكن إنكارها، أن من يحكمون بورتسودان يعرفون جيداً أن الحرب عبث، وأن المدنيين هم الضحية الأكبر، وأن البنى التحتية لا تُبنى بالقذائف. لكنهم وبكل بساطة يفضلون أن يكونوا حكماء في الخارج ومحاربين في الداخل، أخلاقيين في الخطاب وانتهازيين في الممارسة. يمدحون وقف الحرب في غزة ويقدسون استمرارها في الخرطوم.. بيان أخلاقي في الخارج… ومجزرة سياسية في الداخل.. دماء الفلسطينيين غالية ودماء السودانيين وقود سياسي.. في النهاية، لم يعد الصمت ممكناً أمام هذا النفاق. فالحكومة التي تتشدّق بالإنسانية خارج حدودها بينما تمارس القسوة داخلها لا تستحق لقب حكومة دولة، بل إدارة حرب. وإن كانت دموعها صادقة على غزة، فلتذرف دمعة واحدة فقط على أمٍّ سودانية تنام على صوت المدافع، أو طفل يبحث عن ماء وسط أنقاض منزله. السلام ليس ضعفاً، بل شرف. ومن يخاف من السلام فهو إما مستفيد من الحرب أو عاجز عن الحكم بلا سلاح. من يمدح السلام في غزة ويكره السلام في السودان لا يدافع عن القيم بل يدافع عن مصالحه.