نصوص .. بداية أخيرة
خالد عمر
قدماي فوق الأرض ما مقدارَ أغنيةٍ،
فلا ألامسُ سطحَها
ولا أهم بالطيران إذ
لابُّدَ من طربٍ إضافيٍ
يٌطيّرُني
لابُدَّ من بلدٍ سليم البال – يفقَهُ خطوتي،
يُصدِّقُها، يُغيّر وجه هذي الأرض
كي أمشي، إلي بلدي
أو بلدٍ يُغيَّرني
هذي بدايتي الأخيرة
قد أنفكُّ عن نفسي – (يقول الناصحون) –
وقد أفارقها إلي أجلٍ
ولكن لستُ من نفسي بمقترنٍ، حتي أفارقها
أو أحدّثها حديث العارف الفطن
إذا اختزلَتْ فجيعتَها وصارت
إلي شَبَحٍ قليل الحُزن وانسرَبَت
إلي هلكٍ يُكسِّرَني
فقلتُ قد أنفك – باي حالٍ كان – عن نفسي
فلربما جُنَّت أو اعترفَت…. وقالت :
لا تُحدِّثَني كما لو كُنتَني أبداً .
– وغابت بين خلوَتِها
كنجمٍ غاصَ في ظُلَمٍ طِباقاً وانعتمْ –
كيف اتخذتني بيتَ قافيةٍ هَزَّهُ الشّوقُ اصطلاماً
فكُلما قام انهدَم
وتركتَني نهباً لآلاف الرغائب
يدخُلنَني قسْرًا كما يدخُلنَ جُرحا غائراً
ويقُلنَ لي: أقوى الجراح الفاتحات
والجرحُ خاب إذا التأم
فكُن جرحنا المفتوح دومًا، كن بيتنا
وكن في البيت ما يذكرنا بنا
وينقذنا من الماضي
إذا انقطع العشم
وقلت لا
“لابد من شئٍ حقيقيٍ قوي ”
لأخوض تجربتي،
فلستُ السَّامِرَ المطعون في المعني
قابضاً علي جمْرِ التّخيُّل، طاعِناً في الألم
قالت: لا تُقاطِعَني
ما كُنتَهُ زبداً يُهيّجني حين أذكرَهُ
زبدٌ قليل الشأن مُنعقدٌ علي شطِّ العدم
أوقفني في سُرَةِ التِّيهِ عُمراً حائرا
في شارع العَوَزِ القديم المُستبِد
وكتّفني
بسلاسِل من غَلَبَةِ الدين ومن قهْرِ الرِّجال
بأوهامِ الهوى العُذريّ
بالأحابيل المُقعِدات عن النِّضال
وظلّ يَحْصبني بأشلاءِ المبادئ التي فسدَت
بنُدَفِ الدّم الخاثر
وشَذَرِ الذّكريات
بشظايا العَدَم المُشتَعِلِ
أوسعني هِجاء مُحكَماً
ولفَّني بالنَّدم
قلتُ: كيف؟ وهيت لك، هيهات ..
فأنا الذي نظَرَ الأعمى إلي دُجَني
وتحيَّرَ الشاعرُ الماكِرُ في فِتَني
أنا من أهدى الأباليس كتاب البداهةِ
في شَغْلِ الشّرودِ ورعي الغَنَم
خبأتُ القصائد في رُكنٍ ركينٍ في الفلاة
أن سأعود أنبُشُها في بدايتي الأخيرة
لكنَّ القصائد فاجأتني وقالت بلا وزن :
أحسنت إذ أحسنتَ موتَك وانزويت
في نُزلِ الخلود المُجاوِرِ للحياة
وها أنتذا في الليل يحرسك الشعاعُ الوادعُ الذي –
بقدرَةِ فارسٍٍ – أوكلَ نفسَهُ بحمايةِ العفوِ وأدراج الرّياح
كان الضوءُ قائدَنا ورايتَنا
ودليلَنا إلى نُصرَةِ الليل
لكنَّ المعارك اختارت لوقعتِها الصباح
كلُّ البدايات أخيرةٌ
ولو صمَدَت مياهُ النَّهر فينا لتعبرَ مرَّتين
لتركتَ منزلةَ الخلود افتراضَاً
واكتفيتَ بما يُتاح
هذي بدايتي الأخيرة
وإنَّه ما من بدايةٍ إلا وشقَّ ضميرَها جهلُ .
جهلٌ خفيفٌ يُمايز ما تداخل من فرادات الإحتمال
ويدفع بالتردُّدِ نحو صارمةٍ
من غُرفِ القلب الخفيّةِ
حيثُ ترسخ الراسِخةُ وينضَج اليقينْ
هذه حتميَّتي
كلُّ شيء عارفٌ مقدارَه و مُنتَبِهٌ كما ينبغي
العينُ تلفحُ ما يُقابلها علي الغباءِ ولا تشتهي شيئًا
الهواءُ منزَّهٌ في موجِه وجامحٌ كالبحر
والأرض فاغرةٌ كعادتها
لو أنَّها
تُبقِي علي الجُلّاس من عشاقها وتبتلع المشاه !!
أما الريحُ فممسكة ٌفي ذيل ثوبِ الوقت
كي تتعلمَ الضَّبطَ في سَكَرات مَهبِها
وتُلِّقن الوقت وداعةَ الصَّحوِ ونحوها
ليعرفَ الوقتُ في الحركات والسكنات
طولةَ البالِ وسِرَّ الهفهَفةْ
وتترك الصدى للصدأ
مُكحلٌاً بغبارِ وحشَتِهِ، مُتحرِّراً من حيثُ يأتي،
مُخيّرَا في الصّمْتِ عبرَ لُغاتِهِ السُّفليِّةِ المُختلفةْ
فلا يعود الصَّدي مُتكبراً
ولا الصَّمتُ يسري ضيّقاً مُتعالي الأنِفَةْ
لا وجهةٌ للصَّمت مهما سَرَي
ولا صِفةٌ من ضِيقهِ توصِفهْ
كلُ شيء كائنٌ في ذاتِهِ
الشِّعرُ متقدٌ في منازلهِ
والحزنُ أقواسٌ مضوّأةٌ
والكائنات خِفاف
الكائنات طيوفٌ تُشيرُ في ثِقَةٍ
نحو مسراةِ التَّحقُق في مرايا الإشتباه
والكائنات واثقةٌ من كونها تريدُ التّحقُقَ لكنَّها
لا تُحسِن الخوفَ وتخشي القِطاف
الكائنات الكائنات حين تَعجَز أن تكون
تفشَل في البكاءِ فتشق صَفَّ الإنتباه
والشِّعرُ متقِدٌ في منازِلهِ
بمواقِد الجنون
هو هاربٌ فيما يَري عمّا يكون
هو راهبٌ بمعاني الكلمةِ
لا بالظّنون
وهو مفتاحُ الكبائر كلِّها
لا يأبه للنُّبل ولا يعبأ بالمجون
أظنّه النَّقاء في عِرق الطَّبيعيِّ المَصون
أظنّه اللقاء
والفتنة الوديعة
في انتهاكِ السِّرِ أوقات المَغارِب
بين الطّيور وبين الغصون
هذي بدايتي الأخيرة
قدماي فوق سطح الأرض ما مقدارَ أغنيةٍ
وكأنَّني أمشي
إلى أن أكون
أمشي
إلى ما أكون .
