فشل الهدن في السودان والدروس المستفادة

بقلم : د. عصام عباس

خلفية عامة

منذ اندلاع النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، شهد السودان سلسلة من الهدن واتفاقيات وقف إطلاق النار، معظمها ذات طابع إنساني وبوساطة دولية وإقليمية، أبرزها مفاوضات جدة برعاية المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية. تنوّعت هذه الهدن بين قصيرة الأمد (3 ساعات، 24 ساعة، 72 ساعة) في الأسابيع الأولى من القتال، وأخرى أطول نسبياً بمناسبات مثل عيد الفطر أو عمليات إجلاء المدنيين والمصابين. وفي مايو 2023، تم توقيع اتفاق جدة لوقف إطلاق نار قصير الأمد مصحوبًا بترتيبات إنسانية، وقد نص على هدنة لمدة سبعة أيام لإيصال المساعدات واستعادة الخدمات الأساسية وانسحاب القوات من المستشفيات والمرافق المدنية.

غير أن هذه الهدن فشلت جميعها في الصمود، إذ تبادل الطرفان انتهاكها بشكل متكرر، لتتحول من فرص للسلام إلى فترات مؤقتة لإعادة التموضع العسكري.

لماذا فشلت الهدن السابقة

رغم تعدد المبادرات والوساطات الإقليمية والدولية التي سعت إلى وقف إطلاق النار في السودان، إلا أن جميع الهدن السابقة انهارت سريعاً ولم تحقق أهدافها الإنسانية أو السياسية. ويعود هذا الفشل إلى مجموعة من العوامل البنيوية والسلوكية المرتبطة بطبيعة الصراع وأطرافه، حيث طغت الحسابات العسكرية على الاعتبارات الإنسانية، وافتقرت الاتفاقات إلى آليات تنفيذ ومراقبة فعالة. وفيما يلي أبرز الأسباب التي أدت إلى تعثر تلك الهدن واستمرار دوامة العنف.

انعدام الثقة المتبادلة: غياب الثقة بين الجيش والدعم السريع هو العامل الأبرز وراء فشل الهدن. كل طرف يرى الآخر خصماً يسعى لاستغلال أي توقف مؤقت لتعزيز موقعه الميداني. فعلى سبيل المثال، بعد توقيع اتفاق جدة،  واصل الجيش وقوات الدعم السريع انتشارهما في المناطق المدنية، مما أدى إلى انهيار سريع للهدنة. هذا النمط يعكس انعدام الإرادة السياسية لدى الطرفين للالتزام الحقيقي، وتحويل الهدنة إلى وسيلة تكتيكية لا خطوة نحو السلام.

 الإصرار على الحسم العسكري: يُظهر قادة الطرفين قناعة راسخة بإمكانية الانتصار عسكرياً، مما يجعل أي وقف لإطلاق النار مجرد وسيلة لإعادة التنظيم وليس تمهيداً للتسوية. كلا الجانبين يعتبر أن الزمن يعمل لصالحه، وأن التنازل في هذه المرحلة يُضعف موقفه. هذا التفكير يُطيل أمد الحرب ويقوّض أي جهود إنسانية أو سياسية.

غياب آلية مراقبة فعالة: معظم الهدن تم الإعلان عنها دون وجود آلية ميدانية للتحقق أو المساءلة. لم تُشكّل لجان مراقبة مستقلة أو محايدة تمتلك القدرة على توثيق الخروقات وتحديد المسؤوليات. في غياب هذه الآليات، يسهل على أي طرف إنكار الخروقات أو اتهام الطرف الآخر، ما يؤدي إلى انهيار الثقة وانتهاء الهدنة سريعاً.

طبيعة الحرب داخل المدن: تركّز القتال في مناطق مدنية كثيفة السكان مثل الخرطوم وأم درمان جعل من الصعب الفصل بين القوات أو تحديد خطوط تماس واضحة. هذا الواقع الميداني عقّد تنفيذ أي هدنة، فالمناطق السكنية تحولت إلى ساحات قتال، وصار من شبه المستحيل إنشاء ممرات إنسانية آمنة أو ضمان حماية المدنيين، مما أفشل الالتزام بأي اتفاق.

ما الذي تعلمناه من دروس 

كشف التجربة المتكررة لفشل الهدن في السودان عن جملة من الدروس العميقة التي ينبغي استيعابها لتجنّب تكرار الأخطاء ذاتها. فقد أثبتت الوقائع أن معظم تلك الهدن لم تكن خطوات جادة نحو تسوية سياسية، بل توقفات تكتيكية مؤقتة استخدمها الطرفان لإعادة التموضع وكسب الوقت. ومن خلال تحليل التجارب السابقة يمكن استخلاص عدد من الدروس الجوهرية التي تشكّل أساساً لأي جهد مستقبلي نحو هدنة مستدامة وبناء سلام حقيقي، من أبرزها ما يلي:

ضرورة وجود آلية مراقبة ميدانية فعالة بإشراف دولي تضمن الالتزام وتوثّق الانتهاكات بشكل محايد.

إقرار عقوبات فورية ورادعة على أي طرف يخرق الهدنة، حتى لا تصبح الهدنة وسيلة لإعادة التموضع.

ربط المسار الإنساني بالمسار السياسي، بحيث تكون الهدنة خطوة ضمن عملية سياسية متكاملة، لا مجرد إجراء مؤقت.

إعادة بناء الثقة من خلال ضمانات إقليمية ودولية واضحة تضمن التزام الأطراف.

توسيع دائرة المشاركة لتشمل القوى المدنية والجهات المحلية، بما يعزز الرقابة المجتمعية ويمنع احتكار القرار من العسكريين وحدهم.

الفرص الداعمة لنجاح الهدنة

رغم التعقيدات، تلوح فرص جديدة لتحقيق هدنة مستقرة مع تغيّر موازين القوة على الأرض بحلول مارس 2025.

فقد تراجع القتال داخل المدن الكبرى بعد استعادة الجيش السيطرة على الخرطوم وأم درمان وولاية الجزيرة، مما خفف الكلفة الإنسانية وفتح الباب أمام إعادة الثقة وبناء ترتيبات ميدانية أكثر استقراراً.

الواقع الحالي يشير إلى تقاسم فعلي للسيطرة، الجيش يسيطر على الشمال والشرق والوسط والعاصمة، بينما يحتفظ الدعم السريع بمعظم دارفور وغرب كردفان وأجزاء من جنوب كردفان. هذا الوضع الجديد يمكن توظيفه ضمن هدن إقليمية طويلة الأمد تسمح بتدفق المساعدات الإنسانية وتخفيف المعاناة في المناطق المعزولة، وتؤسس لتفاهمات تدريجية نحو تسوية سياسية.

كما أن التحولات السياسية الجديدة – مثل إعلان الدعم السريع حكومة موازية في مناطق سيطرته مقابل حكومة مدنية في مناطق الجيش – قد تفتح الباب أمام مفاوضات فيدرالية أو ترتيبات حكم لامركزي تضمن تقاسم السلطة وتخفيف مركزية الصراع.

كذلك فإن تحالفات الدعم السريع مع قوى مثل الحركة الشعبية/شمال (SPLM–N) يمكن تحويلها من أدوات تصعيد إلى ضمانات للالتزام بالاتفاقات إذا ما أُدرجت في عملية سلام شاملة تضمن العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية.

مقترحات لتحصين الهدنة المقبلة (مبادرة الرباعية)

في ضوء التجارب السابقة وفشل الهدن المتكررة في تحقيق الاستقرار أو الحد من معاناة المدنيين، تبرز الحاجة إلى صياغة هدنة جديدة أكثر صلابة ومصداقية تستند إلى الدروس المستفادة وتقوم على آليات واضحة للرقابة والمساءلة. إن مبادرة الرباعية تمثل فرصة لإرساء إطار عملي قابل للتنفيذ إذا ما تم تحصينها بضمانات مؤسسية وإرادة سياسية حقيقية من الأطراف المتحاربة. ولضمان نجاحها، ينبغي أن تُبنى على أسس جديدة تحقق التوازن بين البعد الإنساني والمسار السياسي، كما توضح النقاط التالية:

إشراف دولي صارم عبر فرق مراقبة مشتركة (دولية وإقليمية) تتمتع بوجود ميداني فعلي وصلاحيات واضحة.

آلية عقوبات فورية تشمل تجميد الأصول وحظر السفر، وقد تمتد لتدخّل دولي تحت مظلة مجلس الأمن لضمان تنفيذ ما تم الاتفاق عليه والحد من الخروقات الجسيمة.

دمج الهدنة ضمن مسار سلام متكامل وخطة سياسية وأمنية شاملة تنفذ تدريجيًا وفق مراحل تشمل وقف دائم لإطلاق النار، وانتقال مدني، وترتيبات لبناء السلام.

اتفاق مكتوب ومفصّل يحدد بوضوح المسموح والممنوع أثناء الهدنة، ويحدد مسؤوليات الطرفين تجاه الخدمات الحيوية، مع تحديد إجراءات المساءلة.

خاتمة

إن فشل الهدن السابقة لا يعني استحالة تحقيق السلام، بل يقدّم خريطة واضحة لأسباب الإخفاق وكيفية تفاديها.

المرحلة الحالية تمثل فرصة نادرة للانتقال من هدنة إنسانية مؤقتة إلى وقف إطلاق نار سياسي دائم، إذا ما تم إدماج الرقابة الصارمة والعقوبات الفاعلة والربط الوثيق بين المسارين الإنساني والسياسي. نجاح هذه الخطوة يتطلب إرادة حقيقية، ودعماً دولياً متوازناً، وشراكة فاعلة مع القوى المدنية التي تظل حجر الأساس لأي سلام مستدام في السودان.

Exit mobile version