عودة الروح إلى النهر والحديد: في تعافي الصناعة والمصارف بعد حرب السودان

بقلم : محمد عمر شمينا
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، دخل الاقتصاد السوداني في مرحلة من الانهيار غير المسبوق. لم تقتصر آثار الصراع على الدمار المادي أو الانقسام السياسي، بل تجاوزت ذلك لتضرب أعماق الاقتصاد الحقيقي، حيث توقفت المصانع، وتعطلت المصارف، وتفككت (شبكات الإنتاج والتمويل) التي كانت تربط أطراف البلاد بمركزها. ولأول مرة منذ عقود، يجد السودان نفسه أمام اقتصاد مقطوع الأوصال، بلا قاعدة إنتاجية ولا نظام مالي فاعل.
القطاع الصناعي، الذي كان يعاني أصلًا من ضعف بنيوي مزمن، تلقّى الضربة الأشد. فسنوات طويلة من العقوبات الدولية، وانعدام الاستثمارات، وتدهور البنية التحتية جعلته هشًا أمام أي صدمة. ومع اندلاع الحرب بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، سقطت المدن الصناعية الكبرى مثل الخرطوم والجزيرة وكردفان في دائرة الدمار المباشر. وتشير تقديرات وزارة الصناعة إلى أن أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة مصنع في الخرطوم ومائة وخمسة وعشرين في ولاية الجزيرة قد تضررت أو دُمّرت كليًا، بينما فقد القطاع أكثر من نصف قيمته الإنتاجية. وبلغت الخسائر الإجمالية أكثر من ستة وعشرين مليار دولار، وتجاوزت البطالة أربعة ملايين ونصف عامل، فيما انضم أكثر من سبعة ملايين إلى خط الفقر.
انهارت (شبكات الإنتاج والتمويل)، وانقطعت الكهرباء، وجُمّدت واردات المواد الخام، وتوقفت الصناعات الحيوية مثل الأدوية والمواد الغذائية والنسيج والأسمنت والحديد. أما قطاع النفط، الذي كان يشكل العمود الفقري للاقتصاد، فقد فقد أكثر من سبعين في المئة من قدرته الإنتاجية بعد خروج الحقول في غرب كردفان والنيل الأبيض عن الخدمة، فانخفض الإنتاج إلى خمسين ألف برميل في اليوم، وهو أدنى مستوى له منذ أكثر من عقد. وفي مواجهة هذا المشهد، بدت محاولات التعافي محدودة ومبعثرة، إذ أعادت بعض المصانع الصغيرة في الخرطوم وأم درمان تشغيل خطوطها بقدرات متواضعة لإنتاج العصائر والمياه المعبأة والكتب، لكنها ظلت تعمل في ظل مخاطر أمنية وانقطاعات مستمرة في الكهرباء.
غير أن الحديث عن مستقبل الصناعة في السودان لا يكتمل دون العودة إلى جذورها التاريخية. فقد كانت ولاية نهر النيل، وبخاصة عطبرة والدامر، القلب الصناعي الأول في تاريخ السودان الحديث. هناك نشأت صناعة السكك الحديدية التي أسسها المستعمر البريطاني في مطلع القرن العشرين، لا حبًا في التنمية بل لحسابات إستراتيجية واقتصادية دقيقة. فقد أدرك البريطانيون أن عطبرة تمثل ملتقى طبيعيًا بين الشمال والشرق والوسط، وأنها نقطة تلاقي الأنهار والطرق البرية والتجارية، مما يجعلها قاعدة مثالية للربط بين الموانئ البحرية في الشرق ومناطق الإنتاج الزراعي والمعدني في الداخل. كانت السكة الحديد في عطبرة ليست مجرد وسيلة نقل، بل نظامًا متكاملًا للإنتاج والإدارة، إذ تحولت المدينة إلى مركز هندسي وصناعي يضم الورش والعمالة الماهرة والمدارس الفنية، فشكلت نموذجًا مبكرًا لاقتصاد إنتاجي منظم. تلك التجربة التاريخية تذكّر اليوم بأن النهوض الصناعي لا يقوم على التمويل فقط، بل على الرؤية الجغرافية والتخطيط المتكامل الذي يربط الموارد بمسارات النقل والأسواق.
وفي موازاة الدمار الصناعي، أصيب القطاع المصرفي بشلل شبه كامل. أُغلقت عشرات الفروع بسبب القتال وانقطاع الاتصالات، وتعطلت نظم الدفع الإلكتروني، وتراجعت قدرة البنوك على إدارة الودائع والتحويلات، بينما اتسع نطاق الاقتصاد الموازي والتحويلات غير الرسمية. ومع توقف الصادرات النفطية وتراجع الاحتياطي النقدي، ضعفت قدرة بنك السودان المركزي على إدارة السيولة أو الحفاظ على استقرار سعر الصرف. وتراجع الائتمان الصناعي الذي كان يمول المشروعات الصغيرة والمتوسطة، فازدادت المصانع عجزًا والبنوك هشاشة.
ورغم هذا الوضع القاتم، بدأت بعض المصارف غير المحلية، لا سيما العربية والإقليمية منها، تعود تدريجيًا إلى السوق السوداني بعد أن كانت قد جمدت نشاطها في بداية الحرب. هذه العودة، وإن كانت محدودة، تمثل مؤشرًا أوليًا على ثقة متجددة في إمكانية استعادة التوازن المالي، لكنها تحتاج إلى بيئة داعمة تضمن الحماية القانونية والأمن التشغيلي وتسهّل الوصول إلى أنظمة الدفع الوطنية. ويمكن لبنك السودان أن يطلق آلية شراكة مؤقتة مع تلك المصارف لتغطية عمليات التمويل التجاري والاستيراد خلال المرحلة الانتقالية، مع توفير ضمانات حكومية وتشريعية تقلل من مخاطر الاستثمار.
إن عودة هذه المصارف يمكن أن تكون بوابة لعودة التمويل الخارجي والاستثمار الإقليمي، شرط أن ترافقها إصلاحات مصرفية وهيكلية حقيقية تُعيد للمؤسسات المالية انضباطها وثقة المتعاملين بها. فالتجربة تُثبت أن الصناعة والمصارف في السودان ليستا مجالين منفصلين، بل جناحان لاقتصاد واحد، إن تعطّل أحدهما سقط الآخر. انهيار الصناعة يضعف الطلب على التمويل، وضعف التمويل يمنع الصناعة من النهوض، وهكذا تدور عجلة الانكماش المزدوج بلا توقف.
في مقابل هذا الانكماش، برزت بعض المؤشرات الخجولة للأمل. إذ تجري مفاوضات متقدمة بين مستثمر خليجي وشركتين روسيتين لإنشاء مصفاة نفطية كبرى في بورتسودان ضمن خطة السودان الاقتصادية لعام 2026، يُنظر إليها كفرصة لإعادة رسم خريطة الطاقة في البلاد وخلق مركز إقليمي على البحر الأحمر. نجاح مثل هذا المشروع سيتوقف على قدرة الدولة في إصلاح بيئتها المصرفية وضمان انسياب التحويلات المالية وتأمين مسارات النقل، وإلا فستبقى الاستثمارات رهينة الاضطراب الإداري والأمني.
إن الطريق إلى الإعمار الاقتصادي لا يمر فقط عبر إعادة بناء المصانع أو ترميم مقار البنوك، بل عبر إعادة بناء الإرادة والرؤية الاقتصادية. يحتاج السودان إلى خطة وطنية شاملة تربط بين الصناعة والتمويل، وتعيد الحياة إلى المناطق الصناعية الآمنة، وتطلق صناديق مشتركة لتمويل المشروعات الصغيرة، وتستعيد روح التجربة الصناعية التي عرفتها عطبرة والدامر ذات يوم، حين كان الحديد والنهر والعقل السوداني يعملون معًا في نسق واحد.
لن تعود المصانع إلى الدوران ما لم تُفتح خزائن البنوك، ولن تنتعش البنوك ما لم يدُر الإنتاج من جديد. فالصناعة والتمويل هما معًا لغة البقاء الاقتصادي، وهما المفتاح الحقيقي لنهوض السودان من تحت الركام. الحرب أطفأت الآلات وأغلقت الخزائن، لكنها لم تستطع أن تُطفئ ما هو أعمق من ذلك، إرادة النهوض التي تسكن ذاكرة المدن الصناعية القديمة وروح العمال الذين ما زالوا يؤمنون بأن السودان يمكن أن يُبنى من جديد، كما بُني ذات يوم على ضفة النيل، حين رسمت عطبرة أول خط للسكة الحديد وربطت بين الشمال والشرق والوسط في مشروع وطني لم يفقد معناه حتى اليوم.





