” ما في مليشيا بتحكم دولة ” ما بين الهتاف الثوري ومنهج التفكير الاستراتيجي والسياسي

بقلم : د. محمد الواثق عبد الحميد الجريفاوي

في مقال سابق بعنوان “ما بين” ما في مليشيا بتحكم دولة” و”تسقط بس”: تستبين سوأة الجيش الموحد لتحالف تأسيس في ظل قيادة الدعم السريع، المدنية تُكتب بالقلم لا برصاصه، تناولت تأثير الشعارات الشعبية على مسار الثورة والتحالفات العسكرية والسياسية التي نشأت خلال الحرب وما بعدها، مؤكّداً أن الشعارات ليست مجرد هتافات، بل تعكس وعياً سياسياً واستراتيجياً يحدد مسار الدولة ومستقبلها.

من هذا المنطلق، يبرز شعار “ما في مليشيا بتحكم دولة” اليوم بوصفه أكثر من مجرد هتاف تعبوي؛ فهو رؤية استراتيجية لفهم دور الدولة في احتكار القوة المشروعة، ووحدة السلاح، وسيادة القانون.

في هذا المقال أسعى إلى تحليل هذا الشعار في أبعاده السياسية والاستراتيجية، وبيان كيف يمكن أن يتحول من شعار شعبي إلى قاعدة سياسية وأمنية لإعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع، وضمان تأسيس دولة مدنية مستقرة، بعيداً عن الانقسامات والفصائل المسلحة، مستلهِماً الدرس من التجربة السودانية وما بعد ثورة ديسمبر المجيدة.

1/ شعار يتجاوز الهتاف ويستوعب التجارب 

ما في مليشيا بتحكم دولة ليس هتافاً ثورياً، بل رؤية فكرية واستراتيجية تعبّر عن جوهر الدولة الحديثة التي لا تقوم إلا على وحدة السلاح، واحتكار القوة المشروعة، ووضوح مركز القرار.

ففكرة تكوين المليشيات خارج الجيش، أو التحالف معها، قد تبدو في لحظتها حلاً أمنياً سريعاً أو وسيلة لتحقيق توازن ميداني، لكنها على المدى المتوسط والبعيد تحمل في طياتها بذور الفوضى وتقويض السيادة وتفكك الدولة.

والتجارب أثبتت أن أي دولة تسمح بتعدد مراكز القوة تفقد تدريجياً هيبتها وحقها في فرض القانون.

2/ أسباب نشوء المليشيات

تتكوّن المليشيات عادة حين تفشل الدولة في أداء وظائفها الأساسية:

ضعف سيطرة الحكومة المركزية، أو عجز الأجهزة الأمنية عن توفير الحماية، الأمر الذي يدفع بعض المجتمعات المحلية إلى إنشاء قوى مسلحة تؤمّن بها مناطقها.

غياب العدالة وتدهور الخدمات الأساسية، (وفي ظل ضعف الحكومة والأجهزة الأمنية) يصبح السلاح وسيلة لحماية المصالح أو الموارد.

كما تلعب الانقسامات القبلية والطائفية دوراً حاسماً في تشكيل جماعات تحمل السلاح باسم الهوية.

وأيضاً تغذي المصالح الاقتصادية والسياسية نزعات السيطرة والتوسع.

ولا يمكن إغفال الأدوار الخارجية التي تستغل هشاشة الدول لتمويل وتسليح مجموعات محلية تخدم أهدافاً إقليمية.

3/ تحالف الحكومات مع المليشيات: حلول سريعة لأزمات معقدة

أما تحالف الحكومات مع المليشيات، فهو خيار تلجأ إليه بعض الأنظمة حين تبحث عن حلول سريعة لأزمات معقدة. قد تُستخدم هذه القوى لتأمين مناطق بعيدة أو مواجهة تهديدات عاجلة عندما تكون القوات النظامية غير كافية.

لكن هذا التحالف غالباً ما يأتي على حساب السيادة، إذ يسمح للمليشيات بالقيام بـ«العمل غير النظيف» دون مسؤولية رسمية، أو يتحول إلى شراكة مصلحية تمنح تلك القوى نفوذاً سياسياً واقتصادياً يوازي نفوذ الدولة نفسها. في النهاية، تصبح المليشيات أداة للنفوذ الداخلي والخارجي، وتتحول من حليف ظرفي إلى خصم دائم.

4/الأثر طويل الأمد لوجود المليشيات (الأثمان الباهظة)

في المدى القصير، قد تحقق هذه الترتيبات تحسناً أمنياً مؤقتاً، أو تمنع انهياراً وشيكاً في مناطق مضطربة. غير أن التجربة تثبت أن الثمن يكون باهظاً على المدى الطويل. فوجود قوة مسلحة خارج سيطرة الدولة يقوّض شرعية المؤسسات، ويخلق حالة من الازدواج في القرار والسيادة. وسرعان ما تبدأ الاحتكاكات بين تلك القوى والجيش النظامي، فتتحول الشراكة إلى صراع دموي يصعب ضبطه. يضاف إلى ذلك أن المليشيات، لغياب المساءلة والانضباط، غالباً ما ترتكب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان من قتل ونهب واغتصاب وابتزاز. ومع الوقت، تنشأ اقتصاديات موازية قائمة على التهريب والتجارة غير المشروعة، فتتآكل موارد الدولة وتضيع فرص التنمية.

5/تعقيدات إضافية: ضخامة تمويل الدولة وهشاشة المصالحة الوطنية

ويزداد المشهد تعقيداً حين تتورط الدولة في تمويل تلك القوى أو محاربتها في الوقت نفسه، فتُهدر مواردها وتتآكل قدرتها على الإصلاح. كما أن وجود المليشيات يعرقل جهود المصالحة الوطنية، ويعمّق الانقسامات الاجتماعية عبر تراكم أحقاد تاريخية بين المجموعات. فحتى إن تحقق هدوء مؤقت، يبقى الاستقرار هشاً، إذ لا يمكن بناء سلام دائم دون نزع أسباب التسلح والانقسام.

6/عوامل تحديد الضرر والفائدة

مدى الضرر أو الفائدة من وجود المليشيات يتوقف على عدة عوامل؛ أهمها درجة ارتباطها بالدولة، ومدى وضوح مهامها وسلطتها، ووجود آليات رقابة ومساءلة فعالة. كما تلعب طبيعة التحالف والزمن دوراً مهماً، فكلما طال أمد العلاقة بين الدولة والمليشيات، زادت المخاطر. وحدها السياسات التي تقوم على الاندماج المنظم أو التفكيك المتدرج للمقاتلين، المعروفة ببرامج «التسريح وإعادة الدمج»، يمكن أن تقلل من خطر استمرار ظاهرة العسكرة.

7/الدروس من التجارب الدولية

تجارب الدول التي سلكت هذا الطريق – مثل العراق وليبيا وسوريا واليمن وأفغانستان – تؤكد الدرس نفسه: التحالفات المؤقتة مع قوى مسلحة غير رسمية قد تحقق مكاسب تكتيكية قصيرة الأجل، لكنها تفتح الباب لفوضى هيكلية طويلة الأمد إذا لم ترافقها إصلاحات مؤسسية وسياسية عميقة. أما الدول التي نجحت في استيعاب تلك القوى، فقد فعلت ذلك عبر مسارات قانونية واقتصادية واضحة، وبرامج بديلة وفرص حقيقية للمقاتلين في العمل والحياة المدنية.

8/السياق السوداني: الشعار كدرس تاريخي

هنا، يصبح شعار «ما في مليشيا بتحكم دولة» في السياق السوداني أكثر من مجرد شعار تعبوي. إنه خلاصة تجربة مريرة، ورسالة سياسية تقول إن السودان لا يحتمل تكرار النموذج الذي عاشه حين وُجد جيش رسمي إلى جانب مليشيا موازية، كما حدث بعد 2019، حين تحولت الشراكة إلى صدام دموي وانقسام وطني خطير. الشعار إذاً ليس رفضاً شعبياً فحسب، بل تعبير عن وعي استراتيجي يضع أساساً لدولة جديدة تقوم على سيادة القانون واحتكار القوة المشروعة.

9/الشعار كمنهج تفكير استباقي

هذا الشعار يمكن قراءته كمنهج تفكير استباقي، يوجّه السياسات الأمنية من إدارة الأزمات إلى منع تكرارها.

فالدولة لا تُبنى إلا على جيش واحد وعقيدة واحدة، ولا يمكن أن تقوم مؤسسات مستقرة في ظل ازدواج القوة المسلحة.

من هذا المنطلق، يتحول الشعار إلى قاعدة استراتيجية يمكن ترجمتها إلى سياسات عملية: تنظيم حمل السلاح، توحيد القيادة العسكرية، إخضاع أي قوة مسلحة خارج الجيش لعملية دمج أو تفكيك، وإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية على أسس وطنية شاملة لا جهوية أو فئوية.

كما ينبغي أن ترافق ذلك عملية عدالة انتقالية تعالج الانتهاكات وتبني الثقة، إلى جانب سياسات تنموية تقلل من دوافع التسلح عبر خلق فرص اقتصادية ومجتمعية للمقاتلين.

10/ تحذير التجارب المقارنة في العالم العربي (دولة داخل دولة) 

التجارب المقارنة في العالم العربي تُظهر بوضوح أن أي دولة تسمح للمليشيات بالتحكم في القرار السياسي، حتى تحت شعار «الشراكة» أو «التكامل»، تنتهي إلى نموذج «الدولة داخل الدولة»، وتعيش حالة دائمة من الفوضى المنظمة. لذلك فإن الشعار السوداني «ما في مليشيا بتحكم دولة» هو ردّ على تجربة واقعية أكثر مما هو نقاش نظري. هو إعلان بأن السودان، بعد الحرب، يختار طريق الدولة لا طريق الفصائل.

11/ التحديات في تطبيق الرؤية

لكن تطبيق هذه الرؤية يواجه تحديات جسيمة، منها التعقيدات الاجتماعية والسياسية التي تجعل تفكيك بعض المليشيات مسألة حساسة، وضعف الثقة بين المكونات الوطنية، والحاجة إلى إصلاح شامل داخل المؤسسة العسكرية نفسها. كما أن التدخلات الإقليمية تمثل عائقاً حقيقياً، إذ تسعى بعض القوى إلى إبقاء المليشيات كأدوات نفوذ في الداخل السوداني. ومع ذلك، فإن وضوح الرؤية يمثل الخطوة الأولى نحو الإصلاح، فاحتكار السلاح لا يمكن أن يتحقق دون تحديث الجيش وإعادة تعريف علاقته بالمجتمع.

12/ الأمن القومي كمبدأ تأسيسي

على مستوى الأمن القومي، يتحول الشعار إلى مبدأ تأسيسي للدولة السودانية الجديدة. فالأمن القومي لا يعني فقط حماية الحدود، بل يشمل حماية وحدة التراب الوطني، واستقرار النظام الدستوري، وضمان الأمن المجتمعي والاقتصادي والسياسي، وتعزيز سيادة الدولة واحتكارها لاستخدام القوة. ومن ثمّ، فإن وجود مليشيا خارج سيطرة الدولة يعد تهديداً مباشراً لكل هذه الأركان.

 

13/ تحويل المبدأ إلى سياسة وطنية

تحويل هذا المبدأ إلى سياسة وطنية يتطلب رؤية شاملة للأمن القومي تقوم على خمسة مرتكزات:

احتكار الدولة لاستخدام القوة المشروعة، 

بناء أمن مؤسسي غير فئوي، 

شمول مفهوم الأمن ليضم الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، 

ربط الأمن بالعدالة الانتقالية والمصالحة، 

وأخيراً حماية القرار الوطني من الاختراق الخارجي.

في هذا الإطار، يجب أن تتكامل سياسات تفكيك ودمج القوات غير النظامية مع إصلاح القطاع الأمني، وإدارة التنوع الجهوي بعدالة، وتجفيف منابع الاقتصاد المسلح، وبناء جسور الثقة بين المؤسسة النظامية والمجتمع.

14/ إعادة تعريف الدولة السودانية

إن الشعار في جوهره ليس فقط رفضاً لواقع السلاح، بل إعلان لإعادة تعريف معنى الدولة السودانية بعد عقود من التفكك والاحتراب. الدولة لا تُبنى على تحالفات البنادق، بل على عقد اجتماعي جديد؛ والسيادة لا تُصان بتعدد البنادق، بل بوحدة القرار؛ والأمن لا يتحقق بالغلبة، بل بالشرعية والعدالة. ومن هنا تبرز أهمية تحويل هذا الشعار إلى عقيدة وطنية، تضع الأمن في خدمة المجتمع لا العكس، وتعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمواطن على أساس الثقة والقانون.

15/ الشعار كبوصلة لمستقبل السودان

قد تكون الطريق طويلة، وقد تتعدد العقبات، لكن الشعار يظل بوصلة تحدد الاتجاه الصحيح: فحتى إن تعذّر تطبيقه الكامل الآن، يكفي أنه يرسم المسار الذي يجب أن يسير نحوه السودان في بناء أمنه القومي ودولته الحديثة.

16/ خلاصة العقيدة الجديدة

وفي نهاية المطاف يمكن تلخيص جوهر العقيدة الجديدة في:

الأمن الوطني السوداني يقوم على سيادة الدولة، وحدة السلاح، وعدالة التنمية.

لا شرعية لأي قوة مسلحة خارج إطار الدولة، ولا استقرار دون عقد اجتماعي جديد يدمج الجميع تحت مظلة القانون.

وهكذا يصبح شعار «ما في مليشيا بتحكم دولة» ليس مجرد قول مأثور أو هتاف سياسي، بل مبدأ تأسيسي لدولة اختارت أن تبنى على القانون لا على فوهة البندقية، وعلى الوحدة لا على التناحر، وعلى الدولة لا على الفصائل.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى