ليليا سيبوي وبن فارمر – التلغراف
تحولت الرمال الحارقة التي تحيط بمدينة الفاشر في غرب السودان إلى بقعٍ حمراء داكنة، بعدما امتزجت بدماء أكثر من ألفي مدني قُتلوا في مجزرةٍ مروّعة.
كانت برك الدماء غزيرة إلى درجةٍ جعلت آثارها مرئية حتى من الفضاء، إذ رصدت صور الأقمار الصناعية مشاهد تُظهر حجم الكارثة التي ارتُكبت بعد سقوط المدينة بيد قوات الدعم السريع، في واحدة من أبشع وقائع التطهير العرقي في السودان خلال السنوات الأخيرة.
وقالت المجموعات التي كانت تقاتل إلى جانب الجيش دفاعًا عن المدينة، إن قوات الدعم السريع “ارتكبت فظائع مروعة بحق المدنيين”، مؤكدة أن غالبية الضحايا من النساء والأطفال والمسنين.
وتداولت مواقع التواصل تسجيلات صادمة، من بينها مقطع يظهر فيه طفلٌ مسلح يطلق النار بدمٍ بارد على رجلٍ أعزل، وآخر يُظهر مقاتلين من الدعم السريع يُعدِمون مدنيين بعد أن تظاهروا بإطلاق سراحهم.
ورغم صعوبة التحقق من عدد القتلى، فإن صور الأقمار الصناعية التي التُقطت بعد سقوط الفاشر في نهاية الأسبوع، عقب حصارٍ دام ثمانية عشر شهرًا، أظهرت أدلة دامغة على وقوع عمليات قتل جماعي.
وأفاد مختبر أبحاث الشؤون الإنسانية التابع لمدرسة ييل للصحة العامة الذي تابع الحصار باستخدام بيانات مفتوحة وصور أقمار صناعية أنه رصد تجمعات من أجسامٍ “تتطابق في حجمها مع أجساد بشرية”، إضافةً إلى “تغيرٍ في لون التربة نحو الأحمر الداكن”، يُعتقد أنه ناتج عن الدماء أو اضطراب الأرض أثناء الدفن الجماعي.
كما رُصدت أجسام بحجم الإنسان بجوار المركبات وعلى طول الساتر الرملي الذي أقامته قوات الدعم السريع حول المدينة، وسط تقارير تفيد بإطلاق النار على المدنيين أثناء محاولتهم الفرار من الفاشر.
وأشار المختبر إلى أنه وجد دلائل على عمليات تطهير ممنهج من منزلٍ إلى آخر، مؤكدًا في تقريره أن “الفاشر تشهد حملة منظمة ومتعمدة للتطهير العرقي ضد المجتمعات الأصلية غير العربية، من خلال التهجير القسري والإعدامات الميدانية”.
كانت الفاشر آخر معقلٍ رئيسي للجيش في إقليم دارفور الشاسع، وقد لجأ إليها أكثر من 250 ألف نازح هربًا من الجوع والقصف خلال العامين الماضيين.
أعادت الحرب الأهلية التي تمزق السودان منذ أكثر من عامين ونصف شبح المجازر العرقية إلى دارفور، حيث تُتهم قوات الدعم السريع بقتل أفراد للاستيلاء على أراضيهم.
تتألف هذه القوات في معظمها من ميليشيات عربية تشكلت من رحم الجنجويد سيئة السمعة، المسؤولة عن جرائم الإبادة الجماعية التي هزت دارفور قبل عقدين من الزمن.
وسبق أن ارتكبت قوات الدعم السريع مجازر مماثلة عندما سيطرت على مدينة الجنينة عام 2023، راح ضحيتها آلاف المدنيين.
وقد حذر اللاجئون وعمال الإغاثة على مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية من وقوع فظائع مماثلة في حال سقوط الفاشر، وهو ما تحقق فعليًا بعد سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة.
وقال كاميرون هدسون، المدير السابق لشؤون أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي:”ما يحدث في الفاشر ليس جديدًا. حدث في الجنينة قبل عامين، والآن يتكرر المشهد ذاته: حملة تطهير عرقي وإبادة جماعية أمام أنظار العالم. إنّه عارٌ على المجتمع الدولي، وعلينا جميعًا.”
ومنذ سقوط المدينة، فرّ عشرات الآلاف من المدنيين، متجهين غربًا نحو مدينة طويلة المجاورة.
وأظهر مقطع مصور يُعتقد أنه يوثّق رحلة الهروب حشودًا من السكان يركضون مذعورين حاملين متاعهم، بينما يطاردهم مقاتلو الدعم السريع مطلقين الشتائم العنصرية والضربات.
وفي مشهد آخر، ظهر عدد من المسلحين يرتدون الزي البني والعمائم المميزة لقوات الدعم السريع، داخل شاحنةٍ تلاحق المدنيين الفارين، بينما يُسمع أحدهم يصيح: “اقتلوا النوبة” في إشارة إلى المجموعات التي تُستهدف بشكلٍ ممنهج.
وتشير تقارير ميدانية إلى أن قوات الدعم السريع تجبر المدنيين على النزوح شرقًا نحو مناطق تسيطر عليها، تُعرف بأنها “أرض بلا مالك”، وبعيدة عن مراكز الإغاثة الدولية مثل طويلة، ما يضاعف المأساة الإنسانية.
وقال جيريمي كونينديك، مدير منظمة اللاجئين الدولية، إن الدعم السريع “يمنع السكان من الفرار إلى الجنوب أو الغرب، ويجبرهم على التوجه شرقًا، حيث لا أمان ولا إمكانية للوصول إلى المساعدات الإنسانية”.
أما وزيرة الخارجية البريطانية إيفات كوبر، فقد وصفت ما يجري بأنه “نمط مروّع من الانتهاكات”، مشيرة إلى تقارير عن عمليات قتل منهجية وتعذيب وعنف جنسي واسع النطاق.
بدورها، أكدت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تلقيها “بلاغات عديدة وموثوقة” عن ارتكاب قوات الدعم السريع “إعدامات ميدانية بحق مدنيين”.
وحذّر فولكر تورك، المفوض السامي لحقوق الإنسان، من أن “خطر وقوع فظائع جديدة ذات دوافع عرقية في الفاشر يتزايد يومًا بعد يوم”.
دخلت الحرب الأهلية الكارثية في السودان عامها الثالث، فيما تصف الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة الوضع بأنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم، إذ يعاني الملايين من الجوع والنزوح والعنف المستمر في ظل غياب أي أفق للسلام.