أخبر العالم بما يحدث في الفاشر… محمد خميس دودا: كيف خسر السودان أحد أبطاله الحقيقيين

بقلم : كامل أحمد – الغارديان
قُتل محمد خميس دودا، المتحدث الرسمي باسم مخيم زمزم للنازحين في دارفور، برصاص قوات الدعم السريع بعد دخولها مدينة الفاشر، تاركًا خلفه صدى صوته الذي نقل معاناة المحاصرين للعالم طوال شهور.

لأشهرٍ طويلة، كان دودا يروي تفاصيل الحياة خلف خطوط الحصار. ومع اجتياح قوات الدعم السريع للمدينة أخيرًا، انتهت قصته كما كان يخشى الجميع: صمتٌ تام بعد آخر رسالة له. أكّد أصدقاؤه وأسرته لـالغارديان مقتله، لتُطوى صفحة من أنبل صفحات المقاومة المدنية في دارفور.

قبل سقوط المدينة، كان اسمه يتردد في أحاديث الناجين عند أطراف الفاشر. كانوا يقولون إن الميليشيات تسأل عن مكانه، وإن مقاتليها ينشرون مقاطع مصوّرة يتوعدونه بالقتل — يريدون أن تصله التهديدات.
ومع الجوع والخوف وانقطاع الإمدادات، ظل دودا يكتب، ويسجّل، ويتحدث. لم يغادر الفاشر، بل بقي شاهداً يصرخ للعالم بما يراه.

في 26 أكتوبر/تشرين الأول، سقطت المدينة أخيرًا. ومعها، سقط دودا.

كان في قلب أكبر مأساة إنسانية يشهدها السودان. خلال مذبحة أبريل/نيسان في مخيم زمزم، التي أودت بحياة المئات، أُصيب دودا، ثم نُقل إلى الفاشر بحثًا عن الأمان. هناك استمر في مهمته، متحدثًا بانتظام إلى الغارديان، وموثّقًا لحياةٍ معلقة بين الموت والجوع.

مع مرور الأسابيع، أحكمت قوات الدعم السريع الطوق على المدينة، قطعت الغذاء والماء والدواء، وشيّدت المتاريس الترابية حولها، فصارت الفاشر سجناً كبيراً لا مهرب منه.

وهذه بعض مقتطفاته من المراسلات التي بعث بها قبل موته:

الاثنين 4 أغسطس

أستيقظ مرهقًا كل صباح. أول معاناتنا الجوع، وثانيها القصف الذي لا يتوقف.
حتى الضوء الخافت لسيجارة قد يجذب طائرة مسيرة. نأكل في صمت ونعيش في خوف. لا نملك سوى الأمل بأن ينتهي هذا الكابوس يوماً ما.

كان دودا ينام في ملجأ بدائي من حاوية معدنية مطمورة تحت الأرض. يقضي الليالي صامتاً، يستمع لصوت الطائرات المسيّرة والإنفجارات. في النهار، يبدأ رحلة بحثٍ عن الطعام: حفنة دقيق أو ذرة. ومع نفاد كل شيء، صار “الأمباز” غذاء الناجين الوحيد. وعندما لم يبقَ حتى ذلك، بدأ الناس يأكلون جلود الماشية.

رغم الجوع والخطر، واصل دودا توثيق الفظائع ومساعدة الآخرين. نظم مع أصدقائه دفن الضحايا ووزع ما تيسر من الطعام والماء، كما كشف تفاصيل عن وجود مرتزقة أجانب يقاتلون مع قوات الدعم السريع. تلك التقارير، كما يقول مقربوه، جعلته هدفاً مباشراً.

الاثنين 11 أغسطس
بدأت الانفجارات شمال المدينة. رأيت طائرتين مسيّرتين. احتمينا داخل المنازل ست ساعات. سقط ستون شهيدًا ومئة جريح.
عدت من المقابر مع صديقي أحمد، سألته إن كان علينا الرحيل، لكنه أراني فيديوهات لأشخاص عُذّبوا بعد محاولتهم الهرب.
قلت له : “فلنبقَ حتى النهاية”

كان هاتف دودا يصمت أياماً، ثم يعود برسالة جديدة من تحت الحصار. في سبتمبر/أيلول، كتب أن المدينة تكاد تسقط، وأن القصف لم يستثنِ حتى المصلّين في المساجد. الناس محاصرون، لا ماء ولا دواء، فقط الخوف والحرارة الخانقة.

الأربعاء 24 سبتمبر
لم أعد أستطيع مغادرة المنزل. حتى مطابخ المجتمع توقفت. الطائرات المسيّرة تهاجم أي تحرك.
أسمع أنهم يبحثون عني. يُرون صورتي لمن يحاولون الخروج.
قوات الدعم السريع تقترب، والعالم ما زال صامتاً.

لكن العالم لم يتحرك. وبعد اجتياح المدينة، توالت الأخبار: اعتقال الصحفي معمر إبراهيم من الجزيرة، ومقتل سهام حسن، النائبة السابقة التي كانت تطعم الجوعى من مطابخ المجتمع.

أعلنت منظمة “آفاز” الحقوقية قلقها من حملة ملاحقات تنفذها قوات الدعم السريع ضد النشطاء والصحفيين، وتفتيش الهواتف بحثًا عن أي صلة بالإعلام أو منظمات الإغاثة.

تقول شاينا لويس من منظمة منع الفظائع الجماعية وإنهائها:”إنها خسارة جيل بأكمله من الشباب السوداني، جيل الثورة الذي حمل قيم الحرية والسلام والعدالة. يُستهدف هذا الجيل اليوم بشكل ممنهج.”

وتضيف أن محمد دودا كان صوت المظلومين، وبطلاً حقيقياً من أبطال هذه الحرب — رجلًا واجه الخوف بالصدق، ومات وهو يحاول أن يُبقي ضوء الحقيقة مشتعلاً.

“خسارته لا يمكن قياسها. فقد السودان أحد أنبل رجاله، وأحد آخر من حملوا شعلته وسط العتمة.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى